المفاهيم الأساسية والإطـــار النظري
سوف يتناول الباحث فى هذا الفصل المفاهيم الأساسية والإطار النظري للدراسة بالشرح والتوضيح فيعرض الباحث الرأسمالية اليهودية في مصر في الفترة مابين ( 1920 – 1939 )، وكذلك دور اليهود في الاقتصاد المصري حيث تعاظم دور اليهود في الاقتصاد المصري نظراً لأنهم لاقوا الدعم من قبل الحكومة المصرية والإدارة البريطانية، وتمكنوا من العمل في شتى المجالات من النشاط الاقتصادي مثل التجارة والصرافة والاستثمار، واستمر الحال إلى عقد الثلاثينيات من القرن العشرين بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية عام 1939، كما سوف يتناول الباحث في هذا الفصل الدعوات لإنشاء بنك وطني مصري ” بنك مصر ” وذلك علي النحو التالي :
المبحث الأول: الرأسمالية اليهودية في مصر
دخلت مصر في القرن التاسع عشر معترك حركتي رؤس الأموال والتجارة الدولية فاتسمت بنيتها الاقتصادية بالارتباط الشديد بكل من فرنسا وبريطانيا، وقد تعرضت فرص تشكيل رأس المال الحقيقي في مصر إلي الضرر من جراء ذلك الإرتباط والذي كان من أهم سماته الحرية المطلقة في عمليات تحويل العملات علي أساس الذهب فضلاً عن قيام البنوك الأجنبية المتواجدة في مصر بتحويل أرباحها ورؤوس أموالها إلي بلادها الأصلية بعد إنتهاء السنة المالية ، في الوقت الذي سعي الرعايا الأجانب في مصر للإحتفاظ بأموالهم في باريس ولندن، بينما فضل الرعايا اليهود استثمار أموالهم في مصر.
ولقد برز دور اليهود الاقتصادي في مصر منذ 1880، إذ كان لهم صلة وثيقة بالدوائر الحاكمة التي كانت تمولها وتقدم لها الدعم اللازم ، فضلاً عن دعمهم للمشروعات الصناعية التي تم إنشاؤها في تلك الفترة وخاصة أن الكثير من المصارف والبنوك كان ملاكها من اليهود، وقاموا أيضا بشراء مساحات واسعة من الأراضي بموجب القانون الذي أصدرته الحكومة المصرية عام ( 1885م ) والذي سمح للأجانب بإمتلاك الأراضي، وقاموا بتأسيس العديد من الشركات والبنوك لإستغلالها والسيطرة عليها، ومن هنا سوف نسرد في السطور التالية مدي تأثير اليهود علي الاقتصاد المصري، الرأسمالية اليهودية في مصر والعوامل التي أدت إلي سيطرة الرأسمالية اليهودية في مصر بشيء من التفصيل.
أولاً: تأثير اليهود على الإقتصاد المصري
أدى يهود مصر دوراً اقتصاديا كبيراً في تاريخ مصر إذ كانوا المسيطرين على الاقتصاد المصري إلى جانب المسيحيين، وسبب سيطرتهم هذه تعود إلي عملهم في الربا الذي حرمه الدين الأسلامي ، والسبب الثاني تمتعهم بنظام الأمتيازات الأجنبية، وما يوفره هذا النظام من إعفاء تام أو شبه تام من الضرائب، فضلا عن ذلك إمتلاكهم موارد مالية عن أبائهم وأجدادهم، وعملهم في مهن يعتقد المسلمون بأنها لا تناسبهم إجتماعيا مثل الحياكة والصباغة وغيرها ، وقد اتي ايضا الدور المالي لليهود في مصر في (الضرائب – القروض – البنوك – البورصة – شركات التأمين) وترك أنشطتهم الاقتصادية الأخري لأوقات أخري ، إذ كان يهود مصر إلي جانب الأقباط هم جباة الضرائب في مصر وبالأخص إبان الحملة الفرنسية (1798- 1801) ، أما فيما يخص دورهم في القروض فقد قامت بعض العوائل اليهودية بإقراض الحكومة المصرية الكثير من القروض وأنقذت ميزانية الدولة من الأنهيار، كذلك كان لهم دورا مهما في تأسيس البنوك وشركات التأمين (سهام نصار ،2006 : 88 )
عمل اليهود في المجال الاقتصادي كالصياغة والتجارة والصيرفة وتقديم القروض، وسبب اشتهارهم بهذه المهن هو تخوف المسلمين من الربا الذي حرمته الشريعة الأسلامية ، كما سيطر اليهود علي الجمارك سيطرة مطلقة في مصر، وعندما جاء نابليون بونابرت إلي مصر واجه مشكلة معقدة في الأمور المالية وجباية الضرائب خاصة بعد فرار المماليك المباشرين بالشؤون الضريبية، وأنه كان بأمس الحاجة إلي المال لإمداد احتياجات جيشة، فقام بتنظيم الأمور المالية من خلال جمع المال من الضرائب التي فرضها علي المصريين وقام أيضا بتعيين الفرنسي (بوسيلج ( Poussielegue مديراً للشؤون المالية والإدارية، وتعيين موظفين أقباط مباشرين لجباية الضرائب ووكيل فرنسي لكل مباشر لمراقبته ، فتذمر المسلمون من تلك الأجراءات ورأوا أن الاحتلال الفرنسي ليس أفضل من حكم المماليك خاصة بعد أن أشتد عليهم جمع الضرائب ، خصوصا أن الضرائب كانت باهظة ولم تعف أحد مما أثقلت كاهل الشعب المصري ، فكانت سبباً مباشراً لأندلاع ثورة القاهرة الأولي 1798 ( علي شلش ، 2005 : 90 ).
عندما تسلم عبد الله جاك مينو عام 1801 قيادة الجيش الفرنسي بدأ بإدخال الإصلاحات اللازمة في شؤون الادارة وأول عمل عني به تنظيم مالية الحملة بتأليف هيئة إدارية للإشراف علي حساب الإيرادات والضرائب وضبطها، إلا أن ذلك لم يمنع محصلي الضرائب من السرقة ، وذكرت الوثائق الفرنسية أنه قام بتوحيد الضرائب الواجبة علي المصريين في ضريبة واحدة لتصل بكاملها إلي واردات الجيش الفرنسي، وأسند هذه المهمة إلي اليهود لمعرفتهم الكبيرة بالنظام المالي والضريبي وخبرتهم في تقدير الرسوم المفروضة علي الأسواق، وما يأتي إلي الأسكندرية من البضائع أو يخرج منها برا وبحرا وجمعها من التجار، ومن هنا يتضح دور اليهود في مصر من الناحية الأقتصادية بالنسبة للفرنسيين ( أحمد محمد غنيم ، 2011 : 123 ) .
اشتد عبد الله جاك مينو في فرض الضرائب الفادحة علي مختلف الحرف والطبقات في مصر كافة، وأكثرها في مدينتي القاهرة والأسكندرية، وشملت تلك الضرائب اليهود وجميع المصريين، وفرض على اليهود أن يدفعوا ثلاثين ألف دينار ضريبة سنوية، وبعد قيام ثورة القاهرة الثانية عام 1800، أصدر مينو إلي حاكم أسيوط الجينرال (دونزلو Donzelo ) أمرا بفرض مبلغ من المال قدره خمسة ملايين علي جباة الضرائب في القاهرة لمعاقبتهم جراء مشاركتهم في الثورة، فقام تلك الجباة بجمع الأموال من الفلاحين، مما أدي إلي أستياء عبد الله جاك مينو من تصرفهم وفرض ضريبة أستثنائية علي الدخل السنوي للجباة، لأنه لم يرغب في جعل سكان الريف يدفعون ثمن تمرد سكان القاهرة والقضاء تماما على مثل هذه الممارسات المجحفة، وطلب من الجينرال دونزلو أتباع سياسة الحزم والشدة والعدل والأنسانية تجاه الأقاليم التي يحكمها، خصوصا أقليم المنيا الذي جمعت فيه ضرائب كثيرة مفروضة علي سكان المدن وليس علي الأرياف ( هاجر هلال ، 2001 : 120 ).
ساعدت سياسة التسامح الديني التي أتبعها محمد علي باشا (1805 -1848) على تخفيف الضرائب علي اليهود شيئا فشيئا ، وأتسع نفوذهم الأقتصادي كثيرا مما شجع علي قدوم يهود جدد من الدول الأوروبية بأعداد كبيرة إلى مصر، وطبقا لنظام الأمتيازات الأجنبية الذي كان معمولا به في أجزاء الدولة العثمانية، أصبحوا يتمتعون بما يشبه أمتيازات أقليمية ويرجع ذلك إلي تقربهم من محمد علي باشا مستغلين أزدياد ضغوط الدول الأوروبية عليه وحروبه في الشام خاصة بعد عام 1834 وحاجتهم للدعم الدولي، وفي عهد عباس باشا الأول (1848- 1854) لم تشهد مصر تطورا كبيرا في الأقتصاد المصري، ويرجع ذلك إلي قلة طموحه وكرهه للحضارة الغربية والأوروبيين، فبقيت الرأسمالية اليهودية قائمة متمثلة في وجود العائلات اليهودية الثرية مثل عائلات (موصيري، رولو، قطاوي، سوراس، منشة) والتي كان لها دورا بارزا في الأقتصاد المصري ( أحمد منصور النوافي ، 2014 : 23 ).
عندما تسلم محمد سعيد باشا (1854- 1863) الحكم كانت مصر تعيش حالة اقتصادية جيدة إذ لم يكن عليها ديون خارجية، وكانت إيرادات الحكومة كافية لمواجهة النفقات وأستثمارها للإصلاحات الداخلية ( حلمي النمنم ، 2006 : 9 ).
بدأت الأزمة المالية في مصر بشكل واضح منتصف عام 1858 وارتفعت ديون مصر للتجار الأجانب واليهود إلي ما يقارب من المليون جنية فحاول سعيد باشا الحصول علي قروض خارجية و لما رفضت الدولة العثمانية منحه الأذن للأستدانه بحجة أنه لا ضرورة لهذا الدين، لجأ سعيد باشا إلي طريقة أخري وهي أصدار سندات قصيرة الأجل إلي الخزانة المصرية ، وهي أن يستدين من المرابين ديونا بواسطة سندات يحررها علي الخزانة بالقيمة المقترضة وهذه وسيلة خطرة لمالية البلاد لأنها أستدانة بلا رقابة لها ولا حساب عليها ، وبلغت فائدتها في البداية إلي 15% ثم وصلت إلي 18% سنويا، وجذبت هذه السندات الفوائد للبنوك التجارية في مصر، وفي عام 1859 أدي تبذير سعيد باشا إلي عجز الميزانية وتأخر دفع السندات، فأخذت سندات الخزانة تصدر علي سنتين بلغت قيمتها مليون وستمائة ألف جنية مصري، وعندما عجزت الحكومة علي دفع مرتبات موظفيها المدنيين والجيش المصري، فأضطر سعيد باشا علي عقد أول قرض أجنبي، وعند وفاة سعيد باشا عام 1863 كانت ديون مصر قد وصلت إلي 11.160.00 جنية مصري، وهو مبلغ كبير إذ قورن بواردات مصر في ذلك العصر( Mcphail ,Helen ,2009 : 211).
تسلم الخديوي إسماعيل باشا (1863 – 1879) ، الحكم والبلاد غارقة في ديونها، وشهدت السنوات الأولي من حكمه تزايد في النفوذ الأجنبي ماليا واقتصاديا، ثم تحول هذا النفوذ في أواخر عهده إلي سيطرة مالية وسياسية شديدة وأدت سياسته في الأنفاق والأصلاح إلي أستدانته من اوروبا مبالغ كبيرة تضاعفت مع فوائدها حتي وصلت إلي عبئ ثقيل لم تستطع البلاد تحمله ، وأزداد عدد المرابين اليهود في عهد الخديوي إسماعيل ، بشكل لم يسبق له مثيل خاصة بعد أن أزدهرت زراعة القطن وقصب السكر والتصدير الزراعي لكلا المنتجين في مصر عام 1864 ، فظهرت الحاجة إلى وكلاء و وسطاء يتكلمون باللغة الأجنبية لتسهيل عملية التعامل وأستفاد اليهود وخصوصا الأغنياء منهم من هذذه المهنة، وترجع كثرة عمليات الربا في عهد الخديوي إسماعيل هو قيام (الحرب الأهلية الأمريكية) ، التي أدت إلي رفع أسعار القطن المصري في العالم والذي كان يسيطر عليه اليهود بكافة الوسائل ، إذ كان اليهودي يعطي الفلاح نقود لتسديد الضرائب المفروضة عليه أو شراء المحصول قبل موعد جنيه ، لذا فإن الحكومة المصرية ساهمت مساهمة فعالة في تنشيط عمليات الربا من خلال تقديم موعد دفع الضرائب قبل جني المحاصيل وكان المرابيين اليهود يفضلون دائما شراء محصول القطن عن غيره من المحاصيل لأن القطن يعد محصولا نقديا، لذا أصبحت مصر مسرحا للمرابيين اليهود خلال عصر إسماعيل باشا فأطلق عليه (العصر الذهبي للمرابين) بسبب كثرة عمليات الربا التي تمت في عهده ( سعيد محمد حسني ، 2000 : 110 ) .
شجع المرابون اليهود الخديوي إسماعيل علي الإقتراض من البنوك الأجنبية بمبالغ كبيرة مقابل فوائد عالية جداً ، وأدوا دوراً كبيراً في هذا المجال، من خلال إدارة بنوك الرهون وبنوك التسليف ، ويقول (جابرييل شارم Gabriel Charm) أحد الكتاب الفرنسيين الذين عاصروا عهد إسماعيل باشا ودرس حالة مصر في عهده “أن السماسرة ومنهم اليهود كانوا يدفعون الخديوي إسماعيل إلي عقد القروض المتتالية من بيوت المال اليهودية الأوروبية” ونظراً للإسراف والبذخ من قبل الخديوي إسماعيل وكثرة نفقاته علي قصوره وحفلاته ، وكل ذلك يتطلب نفقات تعجز خزانة مصر عن تحملها، أضطر حينها إلي الأستدانة من البنوك المالية الأجنبية واليهودية ، ونظرا لتعذر الحصول علي الأموال من الدول الأوروبية، فأنه لجأ إلي جمعها من قبل الأهالي عن طريق زيادة الضرائب أو الإقتراض من أصحاب الثروة من المصريين، من غير حساب أو تخوف من العواقب، حتي كبل البلاد حكومة وشعبا بالقروض الفاحشة( Roshwald , Aviel , 2002 : 99 )
بسبب هذه القروض تدهورت مالية مصر، وعجز الخديوي عن تسديد ديونه فلجأ للتفكير ببيع أسهم قناة السويس البالغ عددها 177.642 سهما، إلي بريطانيا عام 1875 لقاء 4.000.000 وهو ثمن بخس إدا ما قورن بواردات القناة ، وقام اليهودي (دي روتشيلد) بشراء تلك الأسهم ، كما تعهد الخديوي إسماعيل بدفع 5% فوائد سنوية لهذا المبلغ لغاية عام 1894، ومع أشتداد الأزمة المالية وازدياد المالية وازدياد ضغط الدول الأجنبية وحاملي السندات علي الخديوي إسماعيل وقلق المقترضين علي رؤوس أموالهم التي أقترضوها له ، اضطر إسماعيل باشا إلي إنشاء العديد من المؤسسات المالية التي تختص بإدارة شؤون البلاد ، فأصدر بتأثير بريطانيا وفرنسا أمراً عام 1876 بتوحيد الديون وإنشاء (صندوق الدين العام المصري) لتسديد ديون الدولة والفوائد والأقساط ، وخصص له إيرادات مديريات الغربية والبحيرة والمنوفية وأسيوط والضرائب المركية وإيرادات السكك الحديدية وإيرادات عوائد الملاحة في النيل وغيرها من الإيرادات، وتولي إدارة الصندوق مندوبون أجانب ويتم تعين مديري الصندوق بأمر من الخديوي لمدة خمس سنوات، وبذلك لم يستطع الخديوي عقد قروض أخرى إلا بموافقة الصندوق، ومن هنا يتضح نشاط يهود مصر المالي والذي كان له دور كبير في تسهيل عملية الأقتراض العام وأزمة الديون المصرية والتي أدت إلي التدخل الأجنبي في مصر وبيع أسهم قناة السويس، ومن ثم الأحتلال البريطاني لها، هنا يتضح وجها سيئا ليهود مصر وسببا في أزدياد قروضها ( عبدالرحمن الرفاعي، 1994 : 55 ).
أ ) الاحتلال البريطاني لمصر
جاء الاحتلال البريطاني لمصر منذ عام 1882م كنتيجة طبيعية لضعف الخديوي والاضطرابات السياسية التي سبقته وما حل بالبلاد من النهب علي أيدي المرابين والممولين الأجانب الذين كانوا أغلبهم من اليهود حاملي الجنسيات الأجنبية.
وقد أدى النمو الاقتصادي في فترة السيطرة البريطانية إلى تحسن كبير لموقف اليهود الاقتصادي في البلاد، وسياسة الإدارة البريطانية تجاه الاقتصاد المصري إبان احتلالها لمصر (1882 – 1914 )، وبينما كان اليهود في الماضي يزاولون المهن التقليدية والحرف البسييطة، فقد حدث تطور كبير في مزاولة تلك المهن، فقد قدم اليهود عدداً من الموظفين العاملين في مجال الشئون المالية والإدارية وكان لهم تأثير كبير في تولي المناصب الرئيسية والمهمة في البنوك وشركات التصدير والإستيراد المصرية وإدارة الأعمال، وبذلك يتضح أن الاحتلال البريطاني كان سنداً قوياً ودامة هائلة لأصحاب رأس المال من اليهود ( مصطفي الخطيب ، 2004 : 28 ).
ب ) تسامح الحكومة المصرية
وجد كثير من اليهود نوعاً من التسامح من قبل الحكومة المصرية باعتبارهم وكلاء للبيوت المالية الأجنبية، وخير دليل على ذلك التسامح الكبير، أن أحد اليهود أورد في رسالة خطية عام 1918 يُعبر فيها عن شعوره بالامتنان تجاه الحومة المصرية التي لم تمانه مطلقاً في تقديم كل التسهيلات القانونية للمهاجرين اليهود، وقد ترتب علي سياسية التسامح تلك، مزيداً من الأمن والإستقرار لم يجده اليهود في أي بلد حملوا جنسيته ولاقوا فيه سياسة التفرقة والاضطهاد من البلاد التي هاجروا منها، الأمر الذي يوضح بأنه لم يحدث أي اضطهاد أو معاملة سيئة من جانب المصريين بصفة عامة.
ونجد أن الحكومة المصرية لم تتدخل في حياة اليهود أو فرض نمط سلوكي لهم سواء في الإقامة أو فيما يخص الطائفة، حتيى أن المحاكم التي أنشأها اليهود أعطتها الحكومة كافة الصلاحيات للنظر في كافة القضايا التي تخصهم باستثناء القضايا الجنائية، وكنتيجة لمناخ التسامح، نجد أن اليهود حتي غير المتمتعين بالجنسية المصرية حرصوا على إعادة استثمار رؤوس أموالهم في مصر، ولعبوا دوراً في إنتاج رأس المال الوطني وقد نتج عن ذلك تملكهم ثلث الشركات المسجلة في مصلحة الشركات في ظل الاقتصاد الحر الذي كان يتيح حرية التملك ( عبدالوهاب المسيري ، 1999 : 78 ).
ج ) نظام الامتيازات الأجنبية
استمر اليهود يلاقون الدعم من قبل الحكومة المصرية، ففي عام 1915م وأثناء طرد الوالي العثماني ” جمال باشا ” لليهود من فلسطين ، هاجرت أعداد كبيرة إلي مصر وقد بلغ عددهم حوالي 12 ألف يهودي، فأمر السلطان المصري حسين كامل بمنحهم إعانات مالية وصلت إلي 100 ألف جنية مصري ، كما أصدر مرسوماً ببناء مستشفي خاص لهم تم افتتاحها عام 1926م ، ومنذ تلك الفترة تم البدء في إنشاء العديد من المدارس اليهودية في مصر.
ويتضح مدى استفادة اليهود من نظام الامتيازات عند صدور قانون الجنسية المصرية في 26 مايو 1926، فقد امتنع الكثيرون منهم عن التجنس بالجنسية المصرية، وقد استمر العمل بنظام الامتيازات حتى عام 1937م عندما دعت الحكومة المصرية حكومات الدول صاحبة الامتيازات إلي عقد مؤتمر في مونترو بسويسرا والذي أسفر عن موافقة مندوبيها في 8 مايو 1937 علي إلغاء الامتيازات.
د ) الهجرة اليهودية
كانت الهجرة اليهودية إلي مصر أحد العوامل التي أدت إلي استحواذ اليهود علي الاقتصاد المصري في ظل سياسة بريطانيا تجاه الاقتصاد المصري والامتيازات التي مُنحت للأجانب، فقد اجتذبت تلك الامتيازات بعض يهود تركيا وسوريا بعد تدهور الوضع الاقتصادي فيها، كما اجتذبت الآلاف من يهود تركيا الذين فروا من المذابح إبان ( 1914 – 1918 )، فضلاً عن المهاجرين من أوربا والذين كانوا يملكون الجنسية الأوروبية التي سمحت لهم بالتمتع بحماية قنصليات الدول التابعين لها، وقد بلغ عدد اليهود في مصر عام 1917م حوالي 58.581 ألف يهودي ، وبحلول عام 1937م إزداد عدد اليهود في مصر ليصبح 63.550 ألف يهودي (حمدي توفيق، 2009 : 103)
ه ) طبيعة المجتمع المصري وتفضيل الشباب المصري للعمل الحكومي عن العمل الحر
من بين العوامل التي أدت إلى سيطرة اليهود على الاقتصاد المصري هو تفضيل الشباب المصري للعمل الحكومي عن العمل في الأعمال الحرة والتجارية، ففور تخرجه وإنهاء دراسته فهو يسارع في الإلتحاق بالعمل الحكومي الذي يمنحه راتباً مضموناً ، ولم يتجه الكثير من المصريين نحو الاستثمار أو التجارة، مما ترتب عليه احتكار اليهود للنشاط التجاري، وقد استمر الوضع علي ماهو عليه حتي عام 1936م عندما اتجه الوطنيون المصريون إلى العمل الاقتصادي بهدف طرد الأجانب وتمصير الاقتصاد المصري.
و ) ارتقاء اليهود بالتعليم
انخرط اليهود في المقام الأول بالمهن الحضرية الماهرة مثل التجارة والمالية مع حدوث تحول كبير في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والذي برز في مجال التعليم واتجهوا نحو محو الأمية علي نطاق واسع لتوجيه الشباب اليهودي نحو العمل في مجال الاقتصاد والبنوك والمالية علي نطاق واسع، ووصل الأمر إلي ذروته عام 1924م عندما عُين أول وزير يهودي للمالية في الحكومة المصرية وهو ” يوسف قطاوى ” ( سوزان قادر ، 2005 : 40 ).
سعت الحركة الصهيونية للاستفادة من النشاط اليهودي في مصر بأقصى درجة، وذلك منذ مطلع القرن العشرين، ومنذ بداية توافد المئات من المهاجرين اليهود القادمين من الشرق والغرب، خاصة في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولي، كما بدأ يتدفق على مصر سيلاً من المهاجرين اليهود، وكان معظمهم من اليهود الروس، كمحطة ترانزيت في طريقهم نحو الاستيطان في أرض فلسطين، وكان السعي لجعل مصر قاعدة دعم لوجستي لهذا الاستيطان وللصهيونية وأفكارها.
تعددت طرق الاستفادة الصهيونية في مصر واليهود الذين عاشوا بين ظهرانيها، وراحت تكرس لوجود رأسمالي يمكنها من تحقيق ما تصبو إليه من أهداف، ومن بين محاولات إستغلال التحولات السياسية التي شهدتها مصر في ذلك الوقت والسعي الدائم للأقتراب من النخبة السياسية ورجالات الحكم لتكريس النشاط الصهيوني وزيادة وطأته، وبين تأسيس مؤسسات وكيانات اقتصادية قوية ساهمت بقدر كبير في دعم هذا النشاط، كانت المحاولة دائما للسيطرة علي الأعلام وأدواته في مصر، إما ليكون داعما أو محايداً أو متغافلاً عن النشاط الصهيوني في فلسطين (عواطف عبدالرحمن ، 2012 : 79 ).
وهنا نلقي الضوء على كيفية استغلال الرأسمالية اليهودية في مصر لنفوذها وقوتها المادية في تحييد النخبة الثقافية في مصر خلال الفترة من عام 1945 وحتي عام 1948، وذلك من خلال تأسيس “دار الكاتب المصري” للطباعة والنشر والتي قامت بإصدار إحدي أهم المجلات الأدبية المصرية في ذلك الوقت، وهي مجلة “الكاتب المصري” التي ترأسها عميد الأدب العربي طه حسين، ولا تحاول الدراسة توجيه النقد أو الأتهام لطه حسين أو من كتبوا معه في المجلة، أو الأدعاء بأنه كان بمثابة أداة في يد الصهيونية أو التشكيك في وطنيتهم المصرية الخالصة، وهي التهمة التي حاول أن ينفيها عنه أكثر من باحث، بل وجدوا فيه المدافع عن فلسطين وأرضها وداعما لحقوقها، بقدر ما تحاول السير في أغوار النشاط الصهيوني في مصر، خلال تلك الحقبة المهمة من تاريخ مصر ومعرفة أهدافه ودوافعه وكيفية تكريسه للوجود اليهودي في مصر لخدمة مصالح الصهيونية ( أمل فهمي ، 2002 : 89 ).
وقد كان لليهود دوراً في الرأسمالية الوطنية في مصر، بدءاً من التوسع في استخدام الصحافة اليهودية في مصر لحساب الصهيونية، ثم مرحلة ممارسة الضغوط والتدخل في محتوى ما تنشره الصحافة الوطنية المصرية ، لتصل إلى المحطة الأخيرة لمرحلة تطويع النخبة الثقافية والسعي لتحييدها، وتجلي عن ذلك من خلال تناول طبيعة نشاط مجلة “الكاتب المصري”. وتسعى الدراسة قدر الإمكان للحديث عن هذا الدور المحوري الذي لعبته الرأسمالية اليهودية في مصر، بعيدا عن تكرار الحديث عن قضايا جدالية تتعلق بما أعتبره البعض إنزلاقا لنخبة من المثقفين في مصر في خدمة الأهداف الصهيونية في المرحلة التي سبقت نكبة فلسطين ( عادل عز الدين ، 2014 : 211 ).
أدركت الحركة الصهيونية مدى أهمية الطائفة اليهودية الموجودة في مصر، وعلقت الكثير من الآمال عليها باعتبارها عوناً وسنداً للحركة الصهيونية خلال المرحلة الأولى من بناء الدولة، وذلك نظراً لما تمتع به اليهود في مصر من قوة اقتصادية تتعاون مع الحركة الصهيونية في تثبيت وتحقيق أهدافها في فلسطين، وكذلك إعداد جيل محنك من اليهود الصهاينة في مصر يكون لديه من الحنكة والقدرة علي لعب دور حيوي مستقبلا في الدولة المرتقبة. ومع تنامي حركة الوجود اليهودي في مصر مع بدايات القرن العشرين ، شهدت مصر هجرة العشرات من الأثرياء اليهود الذين كانوا الأساس فيما بعد لطبقة من الرأسماليين، تمكنت من إحكام قبضتها علي مختلف فروع النشاط الأقتصادي في مصر، وهو الأمر الذي كان بمثابة سمة مميزة للبناء الأقتصادي المصري طوال النصف الأول من القرن العشرين، وبطبيعة الحال كان وضع اليهود الأقتصادي في مصر كغيرهم من الأقليات مثل الأقباط والأرمن يشهد حالة من الرخاء والنمو والأزدهار بسبب الواقع المصري، الذي سهل لهم ذلك في هذا الوقت ( Panayi , Panikos , 1991 : 157 )
شهدت تلك الفترة استمراراً لحالة المنافسة الاقتصادية خاصة بين اليهود والأرمن، خاصة حينما سيطر الصيارفة الأرمن نسبياً علي النشاط المصرفي الحكومي وغيره خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم نشاط الصيارفة اليهود بعد ذلك خلال النصف الثاني بأحتكارهم الصيرفة والبنوك وصناعة الأقمشة، الأمر الذي دفع الأرمن من الأعراب عن قلقهم من تدفق العناصر الأوروبية التي كانت تهدف إلي تحقيق المكسب السريع، وكان الأرمن يدركون أن كل زيادة في نفوذ هذه العناصر تعني إضعاف شأنهم، وسرعان ما لمع إسم الرأسماليين اليهود في مصر، وكان من بينهم “فيكتور هراري” الذي شغل منصب رئيس مجلس إدارة العديد من البنوك والشركات وكذلك “موريس منشة”، وسيطر أفراد عائلته علي تجارة الحرير والمنسوجات و “جوزيف سلامة” الذي أحتكر تجارة القطن في زفتي وميت غمر، و “موريس جاتنيو” الذي أحتكر تجارة الفحم وأدوات السكة الحديد، وشارك كذلك في تأسيس العديد من المنشأت اليهودية والجمعيات الصهيونية في مصر، ووصل نشاط الرأسمالين اليهود حتي بلغ حجم السيطرة علي الشركات المساهمة لأكثر من 103 شركات من مجموع الشركات البالغ عددها نحو 308 شركة في عام 1942، فضلا عن نشاط فردي شمل كافة الأنشطة الإقتصادية( جميل عرفات ، 2005 : 49 ).
لم يتوقف نشاط الرأسماليين اليهود عند المجال الاقتصادي فحسب، بل كان لهم دور بالغ الأهمية خاصة مع بداية الأربعينات، تمثل في لعب دور همزة الوصل بين اليهود في مصر، والمنظمة الصهيونية في فلسطين، ولأجل ذلك قام كبار الرأسمالين اليهود بتنظيم حفلات في منازلهم حضرها العديد من رموز الحركة الصهيونية، وجاء علي إثرها التوصل لاتفاقيات عدة من ضمنها تشكيل لجنة للدعاية ونشر الأفكار الصهيونية بين يهود مصر(نبيل عبد الحميد ، 1999 : 76 ) .
كان ذلك النشاط بمثابة إمتداد لنشاط صهيوني واسع داخل مصر، خاصة في مدينة الإسكندرية التي شهدت في بدايات القرن العشرين تأسيس جمعية “بني صهيون” عام 1908 والتي أندمجت عام 1909 في جمعية “زئير زيون” وأنتشرت الأفكار الصهيونية أنتشارا واسعا بفضل هذه الجمعيات وأرتفع عدد المنضمين إليها ليصل إلي المئات من اليهود، وبعد صدور وعد “بلفور” كان لنشاط المنظمة الصهيونية العالمية تأثيرا واضح علي هذه الجمعية، وراحت تجهر بدعوتها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وتساهم في سبيل ذلك بالمال والدعاية، فضلا عن نشاط هذه الجمعية، عقد عدد من كبار الرأسماليين اليهود في الإسكندرية، وعلي رأسهم البارون فيلكس منشة وفيكتور ناجيار وجوزيف دي بتشوتو اجتماعا في 12 أغسطس أعلن فيه البارون منشة وجوب تكوين لجنة تهدف إلي لم شمل كافة الجمعيات اليهودية من أجل الأهتمام بكل ماله صلة بفلسطين، وألقي خطابا تحدث فيه عن وجوب دعم الجامعة العبرية في فلسطين والمساعدة في توطين اليهود وغير ذلك من النشاطات الداعمة للصهيونية. ووصل نشاط الرأسمالية اليهودية في الإسكندرية إلي حد عقد اجتماع بحضور الدكتور حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، شرح من خلاله المتطلبات العاجلة التي تريدها الصهيونية في فلسطين، ودعا كذلك الحضور لتكثيف دعمهم لليهود في فلسطين، وتمخض عن الأجتماع الإعلان عن إكتتاب لدعم يهود فلسطين، فسارع يهود الإسكندرية إلي التتبرع وبلغ قيمة المشاركات في بضعة أيام أكثر من عشرة آلاف جنية مصري، وتوالت النشاطات بدون توقف. قد يختلف البعض في حقيقة إذا ما كان نشاط الرأسماليين اليهود في مصر ذو طابع فردي أم ذو طابع رسمي تنظيمي ( محمد حسنين هيكل ، 1999 : 189 ).
وحتى وإن ذلك فإنه كان نشاطا واضح المعالم يصبوا لخدمة الصهيونية في فلسطين والتعضيد من نشاطها، ويوجز الكاتب “أنس مصطفي كامل” الرأسمالية اليهودية في مصر بقوله ” أنها لم تكن مصرية سواء في جذورها أو استمرارها بل ولم تحاول أن تتمصر حتي حينما عرض عليها ذلك وحتي القطاعات التي كانت مصرية من البرجوازية الصغيرة المتوسطة اليهودية تبرأت من جنسيتها المصرية وأقترنت بالجنسية الأجنبية، ولم تتمصر إلا حينما أضطرت لذلك بعد إسقاط الجنسية العثمانية عنها، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الرأسمالية اليهودية إلا كفرع للرأسمالية الإمبرالية أو ما يمكن أن نطلق عليه إمبرالية وسيطة سواء قبل قيام الكيان الأسرائيلي أو بعده، وكانت هويتهم الصهيونية الأسرائيلية الأستعمارية وخاصة لتستقطب القوي البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا اليهودية، كذلك كانت الشبكة الرأسمالية محكمة البناء ودعمتها الطبيعة الدينية اليهودية والتي كانت تجعل منهم تجمعا منفردا ينظر للآخرين من فوق خاصة المصريين المحليين ( أنس مصطفي كامل ، 2002 : 177 ).
ويضيف قائلا “راحت الرأسمالية اليهودية تنظم وعيها الأيدولوجي الصهيوني إلى أقصي حد وعملت علي تثبيط الوعي القومي في مصر، مستغلة في ذلك دوافع المصلحة الشخصية وضيق الأفق السياسي لدي قيادات الرأسمالية المصرية من أحزاب تصل دائما للسلطة بحكم مصالحها مع الاستعمار البريطاني.
مثلت الفترة من 1920 وحتى عام 1950 فترة هامة في الحياة الاقتصادية المصرية وهي مرحلة حاولت مصر أن تحقق التنمية الاقتصادية بالاعتماد علي آليات الاقتصاد الحر، وفي هذه الفترة ظهرت أسماء رواد جدد حاولوا أن يخوضوا تجربة الصناعة، وأن ينقلوا الاقتصاد المصري من اقتصاد يعتمد على إنتاج وتصدير القطن الخام إلى اقتصاد يعتمد علي الذات في إنتاج بعض السلع الصناعية الأساسية مثل: السكر، والسماد، والزجاج، والنشا، والجلوكوز، والمنسوجات القطنية، والأسمنت، والحديد، وتجميع السيارات.
أولاً – دور اليهود في مجال البنوك في مصر
كان لليهود دور في مجال البنوك والبورصة وشركات التأمين حيث عمل اليهود في مهنة الصرافة، في أماكن مختلفة من أهمها ( حي الصاغة، ووكالة الصواريف، وعطفة المقاصيص)، وكانت العملات السائدة في مصر قاصرة علي الذهب والفضة، وأن جميع صيارفة النقود أبان الحملة الفرنسية 1798 هم من اليهود وسوقهم يوجد في خان الخليلي، وكان العاملين بالصيرفة في عهد محمد علي باشا هم من الأرمن بسبب حاجته إلي صرافيهم الكبار ليقترض منهم وينفق علي مشروعاته، لأنهم هم الذين يقومون بتمويل مشروعات الحكومة، ويتم اختيار الصيافة من قبل كبير الصرافين الأرمن الذي ينظم عملهم ويراقب حساباتهم الواردة إلى الخزينة ( سهام نصار ، 1998 : 204 ).
وعندما أساء الصيارفة الأرمن استخدام وظيفتهم وكثرت اختلاساتهم في أعمالهم أصد محمد علي باشا قرار عام 1828 أستبدلهم بصيارفة يهود وأقباط، ولكن عدم فهمهم للأساليب المعقدة في الحسابات أعاد محمد علي باشا الأرمن إلي العمل بجانبهم كما كانوا عليه سابقاً، وتزايد ثراء أعداد كبيرة من الصيرافين اليهود نتيجة تلاعبهم بإستخدام العملات الأوروبية (الفرنك الفرنسي والجنية الأنجليزي) في حركة التجارة الدولية، مقابل استخدام العملات المحلية في التجارة الداخلية، وبالتالي فإن قيمتها أقل من قيمة العملات الأخري فهي أكثر عرضة للتقلبات، وأكتسب الصيارفة اليهود سريعاً خبرة في مجال الصيرفة فأصبحت لهم خبرة تؤهلهم لتحديد قيمة العملة الفرنسية مقابل العملة البريطانية وباقي العملات كالذهب والفضة التي كانت تستخدم في مصر أنذاك، فأضافوا متاعب لمحمد علي باشا منها التلاعب بالعملة وترويج العملات المزورة مما كان له أثر علي العملة المصرية في وقت هي بأمس الحاجة إلي الثبات والأستقرار، وقد أتخذ محمد علي أجراءات مشددة لوقف التلاعب في أسعار العملات إلا أن ذلك لم يقضي علي تلاعب الصيارفة،وتوصل محمد علي باشا بالأتفاق مع التاجر الفرنسي (باستريه Pastrah) والتاجر اليوناني (توسيجه Tosejh) لتأسيس ( بنك الأسكندرية ) عام 1834، ولكن البنك لم يستمر لأكثر من عامين بسبب سوء إدارته، ومن جانب أخر لم يعتمد محمد علي باشا علي الممولين والصيارفة في الخارج لأنه يدرك أن ذلك بداية تحكم الممولين وساستهم في مصر، وبالتالي يتم القضاء علي أحلامه وطموحاته في تكوين دولة عصرية، فأعتمد علي الممولين الصيارفة في مصر الأرمن واليهود وخصوصا أن بعضهم يمتلك بنوك تمول تجارتهم ويعملون في التجارو أيضا، فقد عرض عليه روتشيلد قرضا قيمته أربعة ملايين جنيه بضمان الكمارك، لتمويل حملته علي بلاد الشام، ولكن محمد علي باشا رفض ذلك التمويل لأن شروطها مجحفة، وفيها إستغلال سئ للظروف، وبوابة للتدخل في شؤون مصر. وفي عهد الخديوي عباس قرب إليه اليهود وعين يعقوب قطاوي كبير الصرافين ومدير لدار سك العملة، كما عمل بعض الصيارفة في خدمة بعض الأعيان والأثرياء مثل يعقوب دي منشة (1810 -1883) الذي كان يعمل وكيلا لحسن باشا المنسترلي وصرافاً لمديرية الجيزة ( محمد سيد الكيلاني ، 2007 : 111 ).
ازداد نشاط اليهود المالي والمصرفي طيلة عهدي سعيد باشا والخديوي إسماعيل وعملوا في إدارة خزائن الأسرة الحاكمة وتزويدها بالقروض، وأحتفظ يعقوب قطاوي بمنصة كمدير لدار سك العملة وأمين الخزنة وتعيينه شيخاً للصيارفة وكبيرهم رسميا والتزام حلقات الأسماك والكمارك المصرية ، وخلفه (يعقوب منشة)، وعمل اليهود في البورصة فأنشأت في الأسكندرية (بورصة العقود) عام 1861 التي تعتبر من أقدم بورصات العالم، وتتعامل في القطن وبذرته والبضاعة الأجلة للعقود، إذ كانت البنوك تقرض المزارعين أو الفلاحين المصريين وتتلاعب في الأسعار مستغلين حاجتهم للمال، وأنشئت عام 1872 بورصة (مينا البصل) بالأسكندرية وهي سوق للبضائع أيضا، أتخذها الخديوي بمثابة سوق يباع فيها قطن أراضي الدومين التي كان يزرع فيها أغلبية القطن المصري، كما تباع فيها المحاصيل الزراعية الأخري، ويوجد الكثر من بيوت التصدير اليهودية التي توجد فيها مكاتب في بورصة مينا البصل مثل قطاوي وعندما ازداد عدد الأجانب في مصر وتحديدا في الإسكندرية عملوا علي تكوين بورصة الأوراق المالية التي تنظم عمليات بيع وشراء الأوراق (الأسهم والسندات) والأتجار فيها، وعندما أزداد مركز قوة اليهود في البورصة نشرت صحيفة الأهرام مقالات حول مدي الأضرار الجسيمة التي يلحقونها في الأقتصاد المصري ، ونهب أموال الناس لتحقيق ملذاتهم الشخصية، وخصت بالذكر (الخواجة روبينو) أحد السماسرة ، مما أثار السماسرة اليهود وقاموا بإحراق أعداد الصحيفة وأدعي (البارون فريد دي منشة) أحد السماسرة الكبار بأن للأهرام مصالح ذاتية في هجومها علي السماسرة ( Mosse , George , 2000 : 189 )
كان اليهود من أبرع السماسرة والمضاربين في السوق، ووظيفتهم حيوية في إدارة البورصة إذ يعمل في ترويج الأسهم والسندات من خلال الدعاية لها وهم بمثابة حلقة الوصل بين البائع والمشتري، وبلغ عدد السماسرة اليهود في بورصة القطن (45) سمسار منهم (14) في بورصة الأوراق المالية، وشهدت أوضاع اليهود أزدهاراً أكثر في عهد الخديوي محمد توفيق فعملوا في مجالات الصيرفة وإدارة البنوك، وتولوا عمليات الخصم والعمولة وتقديم القروض، وبعد الإحتلال البريطاني لمصر عام 1882 بدأ اليهود في إنشاء البنوك المالية، وساعدت الاصلاحات التي قام بها البريطانيون في مصر من خلال تأمين اليهود علي أرواحهم وممتلكاتهم علي سيطرتهم علي أعمال البنوك، وتبوأ بعض أفراد العائلات اليهودية المراكز الرئيسية والحساسة في البنوك والشركات الأستثمارية، كما طالبت الحكمة البريطانية الحكومة المصرية تنظيم دور البنوك حتي لا تؤثر في الاقتصاديين المصري والبريطاني، كما خشيت بريطانيا أثر رأس المال غير البريطاني علي زراعة القطن في وقت هي تمهد فيه لإحتكار القطن المصري، خاصة بعد إندماج البنوك الصغيرة التي قامتها عائلات (قطاوي ومنشة اليهودية) في علاقات وسائطية مع بنوك فرنسية وإيطالية وبلغت سيطرة اليهود علي قطاع البنوك بدرجة كبيرة، إلي الدرجة التي تغلق البنوك أبوابها في الأعياد والمناسبات الدينية اليهودية، وساهموا بدور كبير في إدارة البنوك سواء التجارية أو الزراعية أو بنوك عقارية.
وبذلك أصبح الرأسماليون اليهود يسيطرون على إدارة وتوجيه البنوك والشركات المالية والائتمانية التي كانت تتولي عمليات الخصم والعمولة وتقديم القروض مقابل التأمينات وبيع وشراء الأوراق المالية والسندات، كما قاموا بإنشاء شركات التأمين التي تعتبر أعمالها مكملة لأعمال البنوك بصفتها شركات لتجميع المدخرات التي تستثمر في مشروعات مختلفة، ومن أهم هذه الشركات (شركة التأمين الأهلية المصرية) التي تأسست عام 1900 بفرعيها الحريق والحوادث، والتأمين على الحياة، وبلغ رأسمال الفرع الأول 195.000 جنيه، بينما الفرع الثاني بلغ 100.000 جنيه، وتعد أول شركة للتأمين في مصر، شارك في إنشائها اليهود واليونانيين، ومركزها الرئيسي والإداري في الإسكندرية ولها فرع في القاهرة، ومن أبرز أعضاء مجلس الإدارة روبير رول، وأصلان قطاوي بك، وموريس نسيم موصيري، أما الجدول التالي يوضح أهم البنوك التي أسسها وساهم فيها الرأسماليون اليهود والتي لاقت رواجاً، والتي أدت دوراً في تصفية الملكيات الزراعية ( Middebrook ,2003 : 55 )
وفيما يلي أسماء أبرز البنوك وأهم أعضائها اليهود ورأسمالها ونشاطها:
بنك موصيري
سيطرت عليه عائلات كورييل وموصيري وأبرزهم أيلي كورييل وفيلكس وموريس نسيم موصيري. استثمر البنك أمواله في الأعمال التجارية، وامتلك السندات المالية والعقارات، ومنح القروض.
البنك العقاري المصري
تأسس من قبل عائلات سوارس وقطاوي ورولو، وبلغت نسبتهم في المجلس 55% وبالأشتراك مع البنوك الفرنسية مثل بنك الكريدي ليونيه والكريدي فرانسيه. بلغ رأسماله عند التأسيس 40.000.000 فرنك فرنسي أي ما يقارب 51.200.000 جنيه مصري، ثم أزداد إلي 80 مليون فرنك أي ما يقارب من 102.400.000 جنيه مصري بقرار من الجمعية العمومية لكي يتمكن من إصدار سندات جديدة لقيامة بشراء أراضي (الشركة المصرية للدائرة السنية). مركزه الرئيسي في القاهرة والإسكندرية وتأسس بقرار من الخديوي توفيق وأعطي أمتياز لمدة 99 عاما، ولم يقتصر نشاط البنك علي عمليات الأقراض لملاك الأراضي وأصحاب العقارات، بل منح رخصة أقراض المديريات والبلديات والجمعيات التابعة للحكومة، ويمنح قروض طويلة وقصيرة الأجل، وبلغت عدد القروض التي قدمها البنك للملاكين الزراعيين المصريين (14.653) قرضا قيمتها 52.500.000 مليون جنية بتأمين 1.151.423 فدانا، وبلغت أرباحه عام 1910 1.655.331 جنية وتحت تصرف البنك بنفس العام حوالي مليون فدان قيمة القروض التي كان يمنحها للفلاحين مما جعل له دور في إقتصاد مصر الزراعي بتلك الفترة.
بنك سوارس
نجار سوارس رئيسا للمجلس وادجار سوارس وكارلو سوارس ويوسف قطاوي، وبلغت نسبتهم في المجلس 94% كانت نسبة عائلة سوارس لوحدها 40%. وصل رأسمال الشركة إلي 55.000 جنية وحقق أرباح قدرها 6.486 جنيها مصريا.
كان مركزه في الإسكندرية في 5 شارع كنيسة دباته قسم العطارين وله فرع في 48 شارع قصر النيل وفرع ثالث في طنطا، وتركز نشاط البنك في أقراض الموظفين بضمان رواتبهم بفوائد مرتفعة جدا أدت إلي إضطرار معظم الموظفين إلي بيع أثاث بيوتهم لسداد هذه الديون.
البنك الأهلي المصري
رفائيل سوارس حصل على امتيازه، وروبير رولو وفيكتور هراري باشا مندوب الحكومة المصرية في البنك وموسى قطاوي وكارل مانير، وليون كرارس، وأشتري الثري البريطاني (أرنست كاسل) أسهما وأنضم إليهم اليوناني كونستانتين ميشيا
بلغ رأسماله مليون جنيه مصري موزعة في 100 سهم، وزاد عام1900 إلي 1.462.500 جنيها مصريا وفي عام 1903، أرتفع إلي 1.950.000 جنيها مصريا، وفي عام 1904 بلغ 2.437.500 جنيها مصريا ثم 2.928.000 جنية مصري أي ما يقارب من 3 ملايين جنيه إنجليزي في عام 1905.
مركزه الرئيسي في القاهرة، وكان بمثابة البنك المركزي للدولة وأصبح باستطاعته إقراض الحكومة المصرية وجكومة السودان، ومن أنشطته أقراض مقابل رهون في المجال الزراعي وتمويل المشروعات في الشركات الزراعية والعقارية، وشراء المحصول وتسويقه وبناء قطاعات التقل، وترجع خطورة هذا البنك إلي تحكم اليهود في 75% من رأسماله ةأحتواء الربع الأخير منه، وبدلا من أن ينصرف أثرياء المصريين عن مثل هذا البنك تماشيا مع الأتجاه الوطني المعارض للأحتلال البريطاني لمصر، حدث العكس إذ تهافت الأثرياء علي هذا البنك لإيداع أموالهم فيه كما أن الحكومة المصرية كانت أيضا تودع أموالها فيه رغم أن هذا البنك وغيره يرسل الأموال إلي بلدانها الأصلية لكي تستثمرها في أنعاش الصناعة ولم يكن لإيداعات المصريين أي فوائد، كما أستطاعت بريطانيا عن طريق هذا البنك التحكم في الذهب المصري والتحكم في السيطرة على النقد المصري.
البنك الزراعي المصري
تملكه عائلات سوارس وقطاوي ومنشة وموصيري و رولو. بلغ رأسماله 2.500.000 جنية مصري وفي عام 1908 بلغ 15.140.000 جنيه مصري. تأسس بهدف أقراض أموال بشروط ميسرة لصغار المزارعين الذي كان معتمدا علي القطن بدرجة كبيرة وكانت القروض عباره عن نوعين قروض صغيرة لا تتجاوز قيمة القرض 20 جنيه مصري ويكون الضمان للبنك عباره عن كمبيالة المقترض علي أن يسدد المبلغ خلال (15) شهرا، وقروض كبيرة لا تتعدي قيمة القرض 500 جنيه مصري والضمان عبارة عن رهن لأي شئ يملكه المقترض سواء كان أرضا أو عقارا علي أن تساوي قيمته ضعف المبلغ ويتم التسديد وفق أقساط سنوية لا تتعدي عام ونصف، وتم تأسيس هذا البنك بأيعاز من اللورد كرومر لتخليص الفلاحين من ضغوط المرابين ولكن الفلاحين لم يستجيبوا للتعامل مع هذا البنك ويفضلون التعامل مع المرابين اليهود لأنهم يضعون شروط أقل من البنك وطريقة تعامل المرابين هو أمر لم يعتاد عليه الفلاحين.
بنك الأراضي المصرية
أبرو أعضائه أميل نسيم عدس، جوزيف أجيون، إيلي موصيري. بلغت جملة رأسمال الأسهم والسندات عام 1910 (4.219.793) جنية مصري. تأسس بفرمان خديوي بأمتياز لمدة 99 عاما وكان مركزه الرئيسي في الإسكندرية والقاهرة، وأعتمد نشاط البنك علي الأقراض برهونات عقارية، وعلي الأقراض للملاك وللمزارعين علي أجال طويلة وقصيرة.
البنك التجاري المصري
شاركت عائلات قطاوي وسوارس وكان جاك سوارس وجوزيق قطاوي من أبرز أعضاء مجلس إدارته. بلغ رأسمالة 317.000 جنية مصري تقريبا. عرف أثناء تأسيسة عام 1905 بأسم (بنك التسليف الفرنسي) وأعيد تأسيسه عام 1923 بإسم البنك التجاري المصري وأضطر إلي تخفيض رأسماله في حالات الركود والأزمات الأقتصادية.
يتضح من خلال ما سبق دور العائلات اليهودية في تأسيس أو مشاركة الأجانب في إنشاء البنوك التجارية والعقارية والزراعية بتأثير من البنوك الفرنسية أو الألمانية، والتي بلغ رأسمالها مبالغ ضخمة مثل البنك العقاري المصري الذي ازداد رأسماله إلي (100) مليون مما شكل الأثر الخطير من خلال إحكام سيطرة بريطانيا علي الإقتصاد المصري، وكانت البنوك تمنح القروض القصيرة والطويلة الأجال على أقساط وهذه الديون مضمونه عقاريا علي المزارعين المصريين وخاصة كبار الملاك، قد وقعت تحت سيطرة هذه البنوك، وكانت هذه الديون يطالب البنك العقاري المصري وبنك الأراضي وبنك الرهونات المصري بحوالي 70% منها مما يؤدي إلى نزع الملكيات الزراعية المصرية لحساب البنوك التي يشارك أو يسيطر عليها اليهود، وهذا يمثل تصفية للملكيات الزراعية المصرية بعد تصفية الدائرة السنية والدومين العام علي يد البنك العقاري للفترة (1880 -1905) ( Shephard , 2001 : 66 ).
روع العالم عام 1907 بأزمة مالية كبيرة عرفت في التاريخ الاقتصادي العالمي بإسم الأزمة الاقتصادية والذعر المالي وحدثت نتيجة للانهيار المالي الضخم في البورصة لأوراق المالية في نيويورك، وقد كان لهذه الأزمة المالية أثرها القوي على مصر وعلى الاقتصاد المصري تحديدا باعتبارها إحدى المستعمرات التي تدور في فلك إنجلترا، إحدى دول المحور وأيضا لأرتباط العملة المصرية بالإسترليني وعلى ذلك فقد كان ما يصيب العالم من خير أو شر ينعكس على الاقتصاد المصري ( Moyar , Laurence , 1995 : 333)
وقد ظهرت أولى آثار الأزمة المالية في أوروبا على شكل حدوث تعثر في سداد القروض التي كانت تمنحها المصارف التجارية، والمصارف التي اتخذت شكل شركات استثمار إلى المقترضين ولا سيما قروض الرهن العقاري فزاد حجم القروض المعدومة لدى المصارف، وبالتالي خسرت المصارف جزءا كبيرا من أصولها ولما أكتشفت تلك المعلومات للجمهور سارع بسحب ودائعه من المصارف المتعثرة، فأنخفض حجم السيولة لدى المصارف وسارع حاملي السهم إلى بيعها خوفا من انخفاض أسعارها فزاد عرض الأسهم وانخفضت أسعار الأسهم وانخفضت الأرقام القياسية لأسعار الأسهم في جميع بورصات العالم في وقت متقارب، وقام المستثمرون الأجانب ببيع الأسهم التي لديهم وحولوا أرصدتهم إلى الخارج وهذا أوجد صعوبة أمام الشركات التي ترغب في الأقتراض لتمويل عملياتها الجارية أو تمويل استثماراتها( Spector , Ronald , 2001 : 210 ).
دعوات إنشاء بنك وطني
ففي عام 1907 ونتيجة لرفض البنوك الأجنبية العاملة في مصر منح قروض للفلاحين المصريين، تعالت أصوات المفكرين السياسيين المصريين تنادي بأهمية إنشاء بنوك وطنية لتحل محل البنوك الأجنبية في تقديم قروض للفلاحين، ونتج عن ذلك عقدت سلسلة من اللقاءات العلمية لبحث هذا الموضوع من الناحية الشرعية، وكان من أهمها الملتقي العلمي الذي عقد في عام 1913، حيث ألتقت آراء معظم المحاضرين على رفض المشروع من الوجهه الدينية، غير أن كان هناك فريقا أخر أيد الفكرة معتمدا على نص قرآني في دعوي أن الربا المحظور في الإسلام بالنص والإجماع إنما هو الربا الذي يصل إلى مثل رأس المال أو يزيد عليه، وبعد مرور سنوات قليلة بدأت البنوك الوطنية في الظهور في مصر، وكان أول بنك وطني مصري يتم إنشاؤه علي غرار البنوك الأجنبية هو بنك مصر والذي أسسه محمد طلعت حرب عام 1920، وقد اختار طلعت حرب رئيس الطائفة اليهودية يوسف قطاوي ليكون نائبا لرئيس بنك مصر عام 1920 وهو يعتبر أيضا من مؤسسي بنك مصر، كما كان أخوه (سالفاتور بك) شيكوريل عضوا في مجالس إدارة العديد من الشركات وعضوا في مجلس إدارة الفرقة التجارية المصرية ثم رئيسا لها، وكان من ضمن البعثة الأقتصادية المصرية التي سافرت إلى السودان بهدف تعميق العلاقات التجارية بين البلدين وفتح مجالات جديدة أمام رؤوس الأموال المصرية في السودان، وقد كان شيكوريل متجرا للأرستقراطية المصرية بما في ذلك العائلة الملكية، لكنه احترق بكرات لهب ألقيت عليه أثناء حرب فلسطين الأولي عام 1948، ثم دمر مرة أخرى في حريق القاهرة عام 1952، وفي المرتين أعيد بناؤه بمساعدة الحكومة، وبقي على حاله حتي وضع تحت الحراسة بعد نشوب حرب السويس عام 1956، وسرعان ما تخلى أصحابه عنه ببيع أسهمه لرجال أعمال. وكان من أهم نتائج أزمة 1907 علي مصر هو ظهور التعاون في مصر سنة 1908 على أثر الأزمة المالية التي انتابت البلاد عام 1907، وبدأت الدعوة إليه في نادي المدارس العليا علي يد عمر بك لطفي رئيس النادي، فقد فكر في إيجاد علاج دائم للأزمات المالية التي تستهدف لها البلاد فاتجه إلى فكرة اقتباس التعاون عن أوروبا، وأسس عام 1909 أول شركة تعاونية وهي شركة التعاون المالي التجاري بالقاهرة، وأسس أول جمعية تعاونية زراعية عام 1910 بشبرا النملة مركز طنطا ( Simkins , Peter , 2004 : 44 ).
أيضا الحكومة فكرت في تعديل بعض مواد القانون التجاري، تسهيلا لتشكيل النقابات، ولكن قبل تشكيل النقابات أتت الحكومة بمشروع جديد وهو مشروع صناديق التوفير التابعة للبوستة، وتعميمها في القرى والكفور، وفي نفس الوقت تعرقل إنشاء النقابات الزراعية التي تعلم الفلاح معني التضامن والأجتماع وهم لا يريدون له إلا أن يبقي دائما متكلا على الحكومة ( Offer ,Avner ,1999 : 66).
مع بداية الحرب العالمية الأولى وفد عدد كبير من يهود أوروبا الشرقية، من القسطنطينية، وأزمير وسالونيك وكوزفو، ورومانيا إلى مصر في ذلك الوقت ونزلوا هؤلاء المهاجرون إلى ميناء الإسكندرية حيث أقاموا معسكرات في منطقة القباري بالإسكندرية اطلق عليها “معسكرات التحرير” وقامت السلطات المصرية والبريطانية بالسهر علي راحتهم، فقد أمر السلطان حسين كامل بأن تصرف لهم إعانة يومية قدرها ثمانون جنيها، زيدت إلى مائة وقام بعض اليهود في مصر بتشكيل لجان لمساعدة هؤلاء المهاجرين، عن طريق تشكيل “صندوق إغائة اليهود” الذي أنشاء في الإسكندرية وكان أيضا لمساعدة اليهود المقيمين في دولة فلسطين وكان مستودعاً صبت فيه أموال التبرعات، التي تم جمعها من الدول الأخرى، وفي السياق نفسه جاءت دعوة طلعت حرب إلي أنشاء إقتصاد وطني، بتأسيسه بنك مصر وشركاته، الذي يعد أول بنك مصري، أسهمه خالصة وقاصرة علي المصريين فحسب، في الوقت الذي توالت فيه الدعوات إلي مقاطعة البنوك والشركات والمصانع الإنجليزية، هكذا تبنت شرائح من البرجوازية، أنذاك أيديولوجية معادية للأستعمار، وتهدف إلى الأستقلال الأقتصادي والسياسي للقطر المصري، ترافق صعود البرجوازية مع ظهور مجموعة من الأحزاب المصرية لتكون التعبير السياسي عن مصالح البرجوازية، متبنية قضية الأستقلال والأصلاح الدستوري، ويمكن تقسيم الحياة الحزبية في مصر إلى مرحلتين زمنيتين أولهما قبل الحرب العالمية الأولي والأخري بعد الحرب العالمية الأولي ( محمد أبو الغار ، 2004 : 265 ).
ففي المرحلة الأولى من الحياة الحزبية (1907- 1914) وهي ماقبل الحرب العالمية الأولى تصدر الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ثم محمد فريد الحركة الوطنية، مناديا بالاستقلال عن بريطانيا، ومطالبا بالدستور، ولجأ الحزب إلي العمل السري ففي عام 1910 بينما عبر “حزب الأمة” عن مصالح كبار الملاك، وركز علي الإصلاح الدستوري ، أكثر من الأستقلال وتبني هذا الحزب فكر “القومية المصرية” وروج لها في صحيفته “الجريدة” التي ترأس تحريرها أحمد لطفي السيد. وفي مقابل هذين الحزبين ظهر حزب ثالث، مدعوم من الخديوي عباس الثاني هو “حزب الإصلاح” وقد عبرت تلك الأحزاب عن التناقضات القائمة بين البرجوازية المصرية الصاعدة، أنذاك وبين كبار الملاك والأعيان ، المتعاونين مع الرأسمالية الأجنبية، والأستعمار البريطاني وكذلك بينهما وبين سلطة خديوي مصر من جهة أخري ( حسن عبدالحميد معروف ، 1993 : 44 ).
أما المرحلة الثانية من الحياة الحزبية (1919– 1953) وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولي تصدر “حزب الوفد” الحركة الوطنية المصرية، مطالبا بالأستقلال والدستور وتكون حزب الوفد من تحالف برجوازي (برجوازية) وظهرت في هذه المرحلة أيضا أحزاب مدعومة من الملك فؤاد رغبة منه في السيطرة علي الحياة السياسية المصرية مثل حزب الأتحاد (1925) وحزب الشعب 1930 وفي المقابل ظهرت في الفترة نفسها جماعات وأحزاب ماركسية فضلا عن جماعة الأخوان المسلمين وحزب مصؤ الفتاة، علي أن تعرض الأقتصاد المصري كجزء من السوق العالمية للأزمة الأقتصادية العالمية عام 1929، وما تبعها من ركود أقتصادي (1931- 1935) ، جعل البرجوازية المصرية تقدم تنازلات غير قليلة علي الصعيد الأقتصادي، منها قبولها التعاون والمشاركة مع رأس المال الأجنبي وبدأ “بنك مصر” وشركاته يتخلي عن شرط الجنسية المصرية، في حاملي الأسهم مما مكن رأس المال الأجنبي بالتحالف مع شرائح تجارية، كمبرادورية، من ضرب مشروع “بنك مصر” وشركاته، مع بداية الأربعينات القرن العشرين ( Roberts ,Mary , 1994 : 147 ).
ترافق فشل البرجوازية المصرية في محاولتها للاستقلال بالسوق المصرية، اقتصاديا، في تلك الفترة، مع تراجعها على المستوى السياسي في مشروعها لانتزاع الاستقلال السياسي لمصر، ودخلت البرجوازية في سلسلة طويلة من المفوضات مع الأحتلال البريطاني، عجزت فيها عن الحصول على الاستقلال السياسي المنشود. فقد حرصت الحركة الصهيونية في مصر علي إقامة علاقات وطيدة مع النخب السياسية وقادة الأحزاب المصرية، ما ساعدها علي تفعيل النشاط الصهيوني في مصر بقدر أكبر من الحرية، فعلى سبيل المثال نذكر حرص ليون كاسترو مؤسس فرع المنظمة الصهيونية في مصر عام 1917 وسكرتير لجنتها المركزية، على تقوية علاقة الصداقة بينه وبين زعيم الوفد، سعد زغلول لدرجة حيازته ثقة زغلول، مما جعل كاسترو متحدثا باسم “الوفد” في أوروبا، وكما رأس جريدة “La Liberte” لسان حال الوفد في ذلك الوقت، وفي هذا الأطار يذكر حرص الشخصيات الرأسمالية اليهودية المتزعمة للنشاط الصهيوني في مصر، علي إشراك عدد الوزراء والسياسين ورجال الأعمال المصريين معها في نشاطها الأقتصادي ، ويذكر على سبيل المثال أحمد صدقي وأحمد زيور ومدحت وعدلي يكن، وحافظ عفيفي، وأحمد فرغلي، وأحمد عبود وفؤاد أباظة، وإبراهيم عبد الهادي. لذا قد يكون من المفيد إستعراض نماذج العلاقات بين بعض النخب السياسية المصرية والحركة اليهودية لمعرفة طبيعة العلاقة وتأثير النشاط اليهودي على مصر( فتحي عبدالعظيم ، 2002 : 67 ).
فكانت من العلاقة التي تربط أحمد زيور باشا بالحركة اليهودية من القوة ما جعله لا يتحرج من المشاركة في احتفال الصهاينة بوعد بلفور حيث شارك زيور باشا عندما كان محافظا للإسكندرية في حفلتي منظمة الصهيونيين بمصر وجمعية زئير صهيون بصدور تصريح بلفور كما ذكر من قبل. علي أنه تولي زيور رئاسة الوزراء تأكدت تلك العلاقة بإرساله وفد مصري لحضور أفتتاح الجامعة العبرية في إبريل 1925، وكان رئيس الوفد المصري أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية في ذلك الوقت وقد صرح السيد بعد عودته انه ذهب بناء علي رغبة حكومة زيور باشا وأنه لم يذهب بصفته الشخصية أو لتمثيل الجامعة المصرية إذ أنه سبق ورفض الدعوة التي وجهت إليه فهو ذهب فقط من أجل حكومة زيور باشا التي دافع عنها قائلا “إن الحكومة لو أمتنعت عن المشاركة في هذا العمل العلمي لأتهمت بعدم مشارمتها في نشر العلم في الشرق الأدني والبلاد المجاورة” ولا يعد ذلك غريبا علي حكومة زيور باشا التي تعبر عن مصالح مجموعة من كبار الأعيان والتي تشابكت مصالحها مع الرأسمالية الأجنبية ومنها شخصيات رأسمالية يهودية تعمل لصالح الحركة الصهيونية ( محمد رفعت الامام ، 2005 : 88 ).
أفرزت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) عدداً من الأغنياء الجدد الذين وصف ثرواتهم (عزيز بك الخانكي) بقوله: ” لا يمكن للعقل أن يدرك حجم الأرباح التي ربحها التجار، تجار الأقمشة والمنسوجات أصبح الواحد منهم يستنكف أن يقال عنه أنه صاحب 100 ألف جنية أو 200 ألف جنية ويؤكد أن ربحه ناهز المليون، أعرف واحدا منهم أشترى ألف فدان من الأطيان، ودفع ثمنها عدا ونقدا، وتجار الأخشاب مثلهم أصبح الواحد منهم يعتبر نفسه قارون زمانه، أشتري واحدا منهم البنك المصري بحذافيره، وتاجران من تجار التصدير ربحا في سنة واحدة 1.600.000 جنيها جلبها من عرق الفلاح المسكين” ( روت كميحي، 1999 : 108 ).
وكانت الحرب العالمية الأولي فرصة لظهور رأس المال المصري بشكل مغاير، حيث كان الكثيرون يفضلون العمل الزراعي فقط تاركين قطاع البنوك وأعمال المرابين للأجانب واليهود ولا يرحبون بالعمل في مجال التصنيع، غير أن توقف عملية التصدير والأستيراد أثناء الحرب دفعتهم إلي إخراج أموالهم ومدخراتهم والتعامل بها، حتي شهدت مصر نهضة صناعية مصغرة، وصار هناك أستعداد جدي لإنشاء بنك برأسمال مصري تتجمع فيه الأموال المصرية ( Speed , Richard , 1990 : 321 ).