التجليات الفكرية في نتاجي خليل جبران وأمين الريحاني
الإتجاه القومي.
أولًا: الإتجاه القومي في نتاجي جبران خليل جبران.
ثلاثة مؤثرات عملت على بلورة الفكر السياسي القومي عند جبران: واقع الوطن الأم، وواقع الغربة في الوطن الجديد وجملة التوجهات التي رادها النهضويون المسيحيون في سوريا خاصة وخطوا بها أولى الكلمات عن القومية في تاريخ العرب الحديث. ([1])
كانت سوريا إبان الفترة تئنُّ تحت وطأة الاستعمار العثماني وربيبه الطوراني أولاً، تكابد تمزقاً داخلياً بسبب الاقتتال الطائفي والمذهبي ثانياً، والأمران ـ الاستعمار والاقتتال ـ وجهان لعملة واحدة، فالأول يغذي الثاني، والثاني يخدم الأول بتمزيقه الأمة، وأتصور أن واقع سوريا هذا يمثل دافعاً قوياً أو عاملاً مؤثراً كي ينهض الدعاة إلى رأب الصدع، ولمِّ الشمل، وتماسك الشخصية ومحاربة المستعمر الباغي، فكانت القومية سلاحاً للذود عن الوطن في وجه التحديين. ([2])
وفي نيويورك خاصة يوم سافر إليها جبران بعد باريس وبوسطن صدم الرجل بما لم يكن يتصوره يصدر عن بعض أبناء وطنه المهاجرين، سمع دعوات صارخة ومشبوهة تحض الجالية على عدم الاهتمام بالوطن، والتفكير فيه والإحساس بما يعانيه من مشكلات وأزمات وقضايا، وحث واضح على قطع الصلة به، والانصراف نحو الواقع الجديد، والغرق حتى العمق فيه، فوقف الرجل إزاء هذه الدعوات يناهضها ويسفهها، ويدعو عكسها إلى ربط مصير المغتربين بمصير الوطن الأم، فكانت أواصر القومية ومشاعرها الينبوع الذي منح منه أفانين آرائه وحججه الدامغة ([3])
يبقى تراث النهضويين المسيحيين والإنجيليين خاصة، وأثره في هذا التوجه. فمن المعروف أن الدعوة إلى القومية بدأت أول ما بدأت مع هؤلاء في لبنان وفي سورية، لقد كانوا جميعاً يحسون بالضيم والقهر والعدوان، وفتشوا لهم عن مثابة يحمون بها أنفسهم وإخوانهم العرب المسلمين من ظلم البغي والعدوان واستلاب الاقتتال الطائفي أيضاً، فعثروا على ذلك في الرابطة القومية التي نقلوا بعض أطروحاتها عن الغرب، وطفقوا يصوغونها بما يتلاءم مع واقعهم العربي، فأنشؤوا لهم مدرسة أو شبه مدرسة امتدت من الشدياق فآل اليازجي فآل البستاني حتى أمين الريحاني يدعون قاطبة إلى قومية علمانية تتجاوز الاختلافات المذهبية، وتصهر الجميع في وشيجة واحدة، تثبت علاقتهم بالأرض، وتدفعهم إلى طلب الاستقلال، وتأسيس الكينونة المتميزة، وبلغ نشاطهم قمته في مؤتمر باريس عام1913، الذي دعي إليه جبران ليمثل طائفة القوميين في المهاجر([4]).
كتب جبران عن الفكر القومي باللغة العربية يوم كان يكتب بها، وحين تحول إلى الكتابة عن فكره بالإنكليزية بدءاً من عام 1923، لم يعد يتحدث عن هذا الفكر من قريب أو بعيد، وإذا كان ذلك يعني في جملة ما يعني أن العربية هي الوعاء الذي صب فيه جبران فكره القومي فإنه يعني أيضاً أن الكتابة بغير العربية جعلته يعالج موضوعات إنسانية أعم وأشمل ويتوجه إلى جمهور لا تهمه قضايا القومية المرتبطة بالزمان والمكان([5]).
كان فكره السياسي معادي للعثمانيين الأمر الذي دفعهم إلى حظر بعض كتاباته ومنع نشرها، وكان من أول الداعين لوطن سوري على كامل أرض سوريا الطبيعية، وكان كتاب جبران والقضية القومية من أوائل وأهم الكتب القومية السورية. فقد دعا إلى الخروج على المستبدين والملوك والحكام وقال: “والعبودية الجرباء وهي التي تتوج أبناء الملوك ملوكا، والعبودية السوداء وهي تتسم بالعار أبناء المجرمين الأبر ياء، والعبودية للعبودية نفسها هي قوة الاستمرار ([6])
ففي مقالة “الأضراس المسوسة” يصف جبران الظلم والنفاق والاستبداد التي كان أهل الشام فيها في ظل الحكم العثماني، وهنا يحرض جبران السور يين واللبنانيين على الثورة ضد الطغيان والاضطهاد والظلم لأجل تحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي حاضرا ومستقبلا. و يسخر بالشام و يقول إنه أضراس مسوسة وسخة سوداء ومنتنة، كما أنه أشار إلى قطاع ثلاثة حيث يتدهور الوضع من حالة سيئة إلى حالة أسوأ، وهي المدارس والجامعات والمحاكم وديار الأغنياء. كما أنه ندد بموقف رجال السياسة وصورهم كأطباء يملأون ثقوب أسنان الأمة المسوسة بالرصاص المذهب بدلا من أن يستأصلوها، سعني يمسك السياسيون الشعب في الخضوع والألم ([7]).
كتب جبران خليل جبران كتاب العواصف في السنة ۱۹۲۰م، فيه النثر منه سبع قصص قصيرة، وبعض المقالات المتنوعة. أما المقالات فتتراوح بين الثورة الصاخبة العنيفة على الضعف، كما في “يا بني أمّي”.
“يا بني أمي” موضوع من موضوعات في كتاب العواصف لديه ثلاث صفحات فيه يقصص عن غيظ جبران خليل جبران على قومه الذى يحوّل الإغفال والجهل. ولكن جبران خليل جبران أجبرهم مرارا على التغيير والتطوّر ليكون القوم قوما جميلا و نهضة، وفيه أيضا يجد مواقف القومية ([8]).
ففي مقالة – يا بني أمي- عبر جبران عن وطنيته في هذه المقالة، ولكنها يشوبها بلوم وتوبيخ. كان جبران يحب وطنه وشعبه حبا شديدا ولم يقدر التحمل على إذلالهم وإهانتهم وقال في هذا الصدد: “كنت أبكي على ذلكم وانكساركم وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة بل أزالت الغشاء عن عيني و بللت صدوركم المتحجرة بل أذابت الجزع في قلبي… أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة، أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم. أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة ولكنكم لا تشعرون”. فالكاتب في هذا النص يبدو أنه يبغض و يكره قومه نتيجة يأسه منهم لكنه في الواقع كان يضمر لهم في قرارة نفسه أعمق الحب ([9]).
قال جبران خليل جبران:
“ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصورا مزخرفة بالكلام، وىياكل مسقوفة بالأحلام أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون، والجبناء، وأنقض ما رفعو المرائون، والخبثاء؟” ([10])
في هذا البيت أعطى جبران خليل جبران خيارين على قومو، هما بناء الدولة يعنى مكافحة الأمراء الظلماء، الذين يبيعون الدواعيد الفارغة. أماّ الدولة فتكون منكسرة والقوم يكون معوز. أو تريدون أن تسمعون كلامهم. الكلام من الكاذبنٌ. في ىذا الكلام يريد جبران خليل جبران أن يفتح عيون القوم لينظروا الواقعيّة([11]).
قال جبران خليل جبران: “نفوسكم تتلوى جوعاً، وخبز الدعرفة أوفر من حجارة الأودية، ولكنكم لا تأكلون، وقلوبكم تختلج عطشاً، ومناىل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم، فلماذا لا تشربون”([12])
وبتعبيره عن الحزن على موقف الشعب يقول جبران خليل جبران: “كنت أبكي على ذلكم وانكساركم وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة، بل أزالت الغشاء عن عيني ولا بللت صدوركم المتحجرة، بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم، والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة، ولا تأتي بعده”([13])
يبكي جبران على جهل وانكسار أمته يمثل دموعه كالبلور، بمعني شيء مهم بل لا ينفع عند خروجه من عين لأنه لا يستطيع أن يلطف الجاني، الدموع فقط يستطيع أن يطمئن قلب جبران خليل جبران، وعند أن يضحك خليل جبران على شقاء وانكسار الأمة، والضحك كاختطاف الرعد وهو رهيب جدا([14]).
فقال جبران خليل جبران أيضًا:
“ماذا تطلبون مني يابني أمي، بل ماذا تطلبون من الحياة، والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس ؟ ”
رأى أن الأمراء يظلمون ولا يعدلون على رعيتهم، ويخدم القوم ويُعبدها، الأمراء يختطفون حقوق القوم أرواحهم في أيدي الأمراء وأجسادهم يعمل للأمراء، أما القوم، لن يكافح الأمراء الظلماء ولن يحتج الإستنتاج من الأمراء وهم ظلوا في رجاء شيء من الأمراء([15]).
ثانيًا: الإتجاه القومي في نتاجي أمين الريحاني.
ركز الريحاني في مؤلفاته بالعربية على الاصلاح والتحديث ونشر الوعي الوطني في سورية ولبنان، باعتبارهما بلداً واحداً وباعتبار سكانهما شعباً واحداً. يقول في كتابه “القوميات”: “أنا سوري أولاً، ولبناني ثانياً، ومارونياً بعد ذلك. أنا سوري أنشد الوحدة السورية، القومية الجغرافية السياسية. أنا سوري، مسقط رأسي لبنان، واحترم مصدر لغتي العرب، وأستوكل في ديني الله وحده”. ويعود الى التاريخ المشترك للقطرين العربيين فيقول: “أنا سوري لبناني أفتخر ببطولة المردة، كما أني أفتخر بصدر الاسلام وبمجد بني أمية. أنا سوري لاينسى نهضة العرب على الأتراك، ومن شارك بها واستبسل في سبيلها من السوريين واللبنانيين، ولن ينسى شهداء الوطن وماقاساه اللبنانيون من الأهوال”([16]).
وفي ظل الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان دعا السوريين الى المطالبة بحكومة دستورية لامركزية تشمل القطرين. فهو يقول: “أنا سوري يود أن يرى في سورية حكومة دستورية لامركزية عمودها الوحدة القومية الجغرافية، وأساسها العدل والمساواة بالحقوق والواجبات”. ويؤكد في دعوته فصل الدين عن السياسة والتمسك بالعلمانية، إذ يقول: “أنا سوري لبناني أعتقد بفصل الدين عن السياسة، لأني مدرك أن حجر العثرة في سبيل الوحدة القومية إنما هو التحزب الديني. أنا سوري لبناني أنظر الى الماضي مودعاً، وأتطلع الى المستقبل مسلّماً مستبشراً”. ([17]).
ووجه نداءً الى السوريين لطلب الوحدة مع لبنان: “فيا إخواني الدمشقيين، قولوا لفرنسا، إذا كنتم مخلصين فيما تطلبون وتقدمون: إننا نود أن نكون وهذا الشعب اللبناني أمة واحدة لهم مالنا وعليهم ماعلينا، بل لهم أكثر مما لنا إكراماً لتقاليدهم وعملاً بما توجبه طبيعة بلادهم”. وهاجم الدعوة الى انفصال لبنان عن سورية بقوله: “لذلك نقول إن الفكرة اللبنانية، بل الفكرة القومية الطائفية، هي فكرة عتيقة عقيمة. هي، لو عمل بها اليوم، ضربة قاضية علينا. فقد كانت سبب تقهقرنا وبلائنا في الماضي، وستكون، إذا سادتنا، سبب بلائنا في المستقبل”. ([18])
وسعى إلى شرح حب الوطن في خطبة له سنة 1909، بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني: “نعم إن ولعي بلغتي وبوطني لقوي شديد، ولو سألتموني الأسباب التي توجب هذا الولع لقلت لكم: أحب لغتي ووطني لأنني أحب نفسي. وقد يحملني هذا الولع على الغلو أحياناً”. وبيّن النتائج الايجابية للوعي الوطني ومحبة الوطن بقوله: “حين تنمو في الأمة عاطفة الوطنية يقوم الوطنيون بما تطلبه حياتنا الجديدة وأمتنا الحرة من المشاريع الخطيرة. حين تنتشر فيها ديانة حب الوطن-الديانة الجامعة المقدسة-يضعف نفوذ الأجانب وتسقط الامتيازات الأجنبية كما سقطت حكومتنا الاسبتدادية بطريقة هادئة سليمة”. ([19])
وفي هذه السنة، سنة الاطاحة بحكم السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادي، برز وعيه القومي العربي. وهو في هذا لايختلف عن أقرانه من المفكرين في عصر النهضة العربية الذين يعتبرون الوطن العربي محصوراً في آسيا العربية. يقول الريحاني في هذا الصدد: “وإنكم، إذا نظرتم إلى خارطة العالم ترون أن من البلاد ثلاثا آخذة منه مركز القلب. وهذه البلاد هي سورية ومابين النهرين وجزيرة العرب. وهذه البلاد قلب العالم. في هذا القلب ظهر الأنبياء وفيها نشأت الأديان. ومن هذا القلب أشرقت على أوروبا في الأجيال الوسطى شمس العلم والفلسفة والأدب، فأنارت ظلمات الأوروبيين وخرجت بهم من مهامه الجهل والتوحش الى واحات الرقي والعمران”([20]).
وكغيره من رواد النهضة العربية أيد ثورة العرب على الاتراك بقيادة الحسين بن علي، أمير مكة، سنة 1916، وأشاد بها سنة 1917: “فنهض العرب نهضة الأشاوس، بل نهضة أجدادهم أنصار النبي لينقذوا الاسلام من مطامع الأتراك وجورهم، ويلبسوه ثانية حلة العز والمجد. وفي هذه القوة التي أظهرها العرب حق يعلو ولا يعلى عليه”.
ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى ودخلتها الدولة العثمانية الى جانب ألمانيا والامبراطورية النمساوية-الهنغارية سنة 1914 ضد الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية) تحمس بعض اللبنانيين للتعاون مع فرنسا ودعوا السوريين واللبنانيين الى الانخراط في صفوف جيش الشرق La Légion d’Orient الذي أنشأته فرنسا بدعوى تحرير سورية ولبنان من الحكم التركي. كان الريحاني، في بداية الأمر، قد أيد هذه الدعوة التي تبناها عدد من المفكرين اللبنانيين المتعاونين مع فرنسا أمثال شكري غانم وندره مطران وجورج سمنة ، ولكنه مالبث أن حذر من التحالف مع فرنسا وبيّن أخطاره بقوله: “الحقيقة التي ينبغي أن تكون فوق كل مصلحة وكل سياسة هي أن فرنسا تبتغي من بلادنا شيئاً لقاء ماستبذله في سبيلنا. وبعد ذلك كيف نصون بلادنا ونحافظ على استقلالنا إذا حاولت الأكثرية في سورية أن تنتزعه منا؟ كيف نصون حدودنا البرية والبحرية، أبجنود فرنسا وأسطولها؟ هل يعقل أن تبذل فرنسا دم أبنائها في سبيل استقلالنا لمجرد كوننا من سليلة الصليبيين، كما يزعم الزاعمون؟ هل نحن على هذا المقدار من السذاجة؟ لنجرد أنفسنا من الأوهام، لنقلع ساعة عن التضليل والتدجيل. لنفكر في معنى الاستقلال تحت رعاية فرنسا أو غيرها من الدول. فاذا كانت فرنسا أو غيرها من الدول ترغب في بسط حمايتها على شعب من الشعوب فلا نفعل إلا إذا كان في بلاد هذا الشعب أسواق تجارية ومجالات لمشاريع صناعية تقوم بنفقات هذه الحماية”. ([21])
ولما وقعت سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، أدرك الريحاني وغيره من حسني النية خطورة الاستعمار الغربي وأذاه. كتب مقالة بعنوان “كتلة شرقية” سنة 1935 جاء فيها: “وهناك حقيقة أخرى استرعي لها نظر السياسيين في هذا الشرق الأدنى، الترك منهم والفرس والعرب. وهي أن الدول الأوروبية لاتنظر لحكومات الشرق والشرقيين كما تنظر لنفسها ولشعوبها. فهي تحمل ميزانين للعدل، وقياسين للمؤهلات الوطنية والاجتماعية. إن لشعوب هذا الشرق الأدنى عدواً واحداً هو الاستعمار الأوروبي”.
وكان له تصوره الخاص بشأن لبنان ومستقبله. ففي سنة 1936 مع مجيء حكومة الجبهة الشعبية Front Populaire التي ضمت الاشتراكيين والشيوعيين في فرنسا، أمل لبنان وسورية في الحصول على استقلالهما السياسي، وأبرمت معاهدة بين فرنسا وكل منهما في ذلك العام نصت على استقلالهما. قدم الريحاني أثناء التفاوض لابرام هاتين المعاهدتين تصوره هذا: :ينبغي أن يكون لبنان في مستقبله، مثل سائر الأقطار العربية حراً مستقلاً في سياسته الداخلية وشؤونه الاقتصادية والادارية ومتحداً وسورية في سياسته القومي ومنضما الى الحلف العربي، أو بالحري، متعاهداً متحالفاً كقطر عربي مستقل والأقطار العربية الأخرى المستقلة”.
وهاجم الطائفية التي تبنتها فرنسا، وعدت نفسها حامية للأقليات الدينية والاثنية في سورية ولبنان. وجاء في مقال بعنوان “الطائفية” سنة 1936: “الحكومة المؤسسة على الطائفية حكومة ظالمة مظلومة. كفاءتها ضائعة، وعدلها مقيد بقيود أرباب الأديان… المصالح الطائفية لاتلتئم والمصلحة الوطنية العامة، الطائفية هي لفظة أخرى لحب الذات. الطائفية هي نوع من الخيانة الوطنية. في ضعف الطوائف قوة الوطن. في التفكك الطائفي تحقيق الآمال القومية… الطائفي ربع رجل، والطائفي الوطني نصف رجل والطائفي الوطني المحبذ للاطائفية ثلاثة أرباع الرجل، والوطني اللاطائفي قولاً وعملاً هو الرجل كل الرجل”([22]).
كانت أوضاع سورية ولبنان وأحداثهما تشده كثيراً. ولكنه منذ سنة 1922، أي بعد أن أصبحت جميع البلاد العربية الاسيوية تحت الهيمنة الأوروبية أو النفوذ الأوروبي، أدرك الحاجة إلى وحدة العرب لمقاومة هذه الهيمنة والتحرر منها. وركز على الوعي القومي العربي، وها هو يقول في خطبة ألقاها في بغداد في حفلة أقيمت لتكريمه: “إني، أيها السادة، عربي القلب والروح، كما إني عربي اللسان. كنت كذلك قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب، وسأظل كذلك كل حين”([23]).
وأصبح داعية للاتحاد العربي منذ سنة 1927 وحتى وفاته. قال في خطبة بين يدي عبد العزيز آل سعود، سلطان نجد وملك الحجاز، ألقاها في جدة سنة 1927: “لم يتغير المبدأ الذي من أجله سحت في البلاد العربية، فانني لاأزال أنشد الوحدة. ولا أزال أقول واعتقد أنها محققة، إن شاء الله، بمساعي عبد العزيز الملك السلطان الجامع شمل العرب في هذا الزمان. الجامع شمل العرب! إنها لكلمة كبيرة ولكنها الحقيقة”.
ونادى بالقومية العربية وحاول شرح معناها في خطبة ألقاها في جامعة هارفرد Harvard University سنة 1928 بعنوان “الشرك الجميل”، إذ قال: “إن العربية لغة بلادنا، وإن الثقافة العربية الحامل أعلامها اليوم السوري واللبناني على السواء، لهي ثقافة الأقطار العربية جمعاء.
أما القومية فان فيها قولين: ففريق يقول إن السوريين، وخصوصاً اللبنانيين، متحدرون من الفينيقيين. وفريق يقول إنهم من صميم العرب. وفي القولين شيء من المبالغة التي لايبررها التاريخ… إذن العرب أجدادنا والفينيقيون أجدادنا. وبعد هذا وذاك، أيها السادة، الأمم بفضائلها لا بأصولها. وفي إرثنا القومي الروحي والعقلي والاجتماعي حسنات الأرومتين الساميتين: الفنيقية والعربية. وفينا كذلك آفاتهما… والركن الأخير في الوطنية، بل الركن الأول، هو المصلحة، المصلحة المشتركة المرتكزة على العدل والانصاف، على المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد”([24])..
وأكد في خطبة ألقاها في دمشق سنة 1928 حيوية الأمة العربية وقدرتها على مجابهة المحن، وماتتحلى به من مزايا: “ومن أكبر العجائب أن هذه الأمة التي عاشت أكثر من ألفي سنة في ديرة الموت، كانت دائماً تنتصر على الموت، وكانت فوق ذلك، من الأمم الفاتحة، من الأمم الممدنة، من الأمم التي حملت مصابيح العلم والشعر والنبوة، حقباً من الزمن، إلى أربعة أقطار العالم([25]).
وهذه الأمة العربية التي تعيش على الدوام في شظف العيش، وفي ظل الجدب والمجاعة… حفظت مع ذلك أكثر صفاتها الطيبة، فكانت في أطمارها وشظفها عزيزة كريمة. أعجب لأمة تجلس في أطمارها، وتأكل التمر، وتشرب الماء العكر، وهي تتحدث في الشمم والاباء، وفي الصدق والوفاء، وفي الكرم والشجاعة، وفي الحرية التي هي عندها الكنز الأكبر. هذه الصفات العربية الخالدة هي التي ساعدتني في تحمل المشاق، بل هي التي أنستني المشقات، في تلك الرحلة المباركة التي ربطت قلبي بقلب العرب… فصرت للعرب الأخ المحب”.
وقد عبر عن حبه للأقطار العربية في رسائله إلى أصدقائه في كل قطر. فها هو يكتب من الفريكة، مسقط رأسه، في 14/6/1923 إلى الشيخ محمد رضا الشبيبي في العراق: “إني أحب بلادكم، ياصديقي، أحب كل قطر من الأقطار العربية حباً جزيلاً، ولو عشت مائتي عام لبذلتها كلها ساعياً في سبيل هذه الأمة، أمتنا، علّنا نخرج بها الى مروج العلم والحرية، ولو بعد مائة عام، وعلينا أن نسعى مهما قصرت الحياة أو طالت”([26]).
ورأى أن الحل الوحيد لما تعانيه الأقطار العربية في آسيا من هيمنة استعمارية هو الاتحاد بينها. قال في خطبة ألقاها في نيويورك سنة 1931: “إذا مانظرنا إلى لبنان نراه نهب أطماع خارجية وشرور داخلية، ونراه، فوق ذلك، يتلاشى بين مخالب التقسيم. فقد جنى عليه الفرنسيس بالتقسيم السياسي كما جنى عليه الرؤساء بالتقسيم الطائفي. وإذا نظرنا إلى سورية أو إلى فلسطين أو إلى العراق نرى أن الأحوال هنا شبيهة، على الاجمال، بأحوال لبنان. وإذا عممنا فنظرنا الى البلاد العربية جمعاء، نرى أفات لبنان الداخلية والخارجية مجسمة في إماراتها الصغيرة، تلك الامارات التي تعبث بها السياسة البريطانية، يقسمها الانكليز، ويرشون أمراءها بالذهب والأوسمة ليقبلوا بالتقسيم” ([27]).
نظر المثقفون العرب الى العراق، بعد نيله الاستقلال سنة 1932 نظرة ملؤها الاعجاب والأمل في توحيد العرب. وكان الريحاني من هؤلاء المثقفين. واعتبر التربية والتعليم أساس تقدم العرب واتحادهم. قال في خطبة ألقاها في بغداد في افتتاح المعرض الزراعي الصناعي سنة 1932: “إن هذا العلم لركن الوطنيات كلها، بل هو عمود البيت ونوره وأثاثه. فكما أننا ندعو لجمع شمل العرب وتوحيد كلمتهم، أي لتكوين قومية جديدة من التكتلات المتعددة المشتتة، فاننا كذلك، ومن أجل ذلك، ندعو لتعليم عصري علماني عمومي تسطع أنواره في المدارس الوطنية المجردة من كل صبغة دينية… في الوطن الشامل أقول، العراقي اليوم، العراقي السوري غداً، العراقي السوري الفلسطيني تدريجاً، العراقي السوري الفلسطيني الحجازي النجدي اليماني بعد ذلك.
هذا هو الهدف الأوحد الأعلى. لا أنكر أنه هدف عال بعيد، دون عقبات. ولكني متيقن أن الأمة التي سادت الشطر الأكبر من العالم في الماضي فخفقت أعلام مجدها في القارات الثلاث، من السند الى الاندلس، ومن باب المندب إلى بلاد الروم، لاتعجز، في هذا الزمان، زمان النور الأعم، أن توحد السيادات القومي في أرضها. إن الأمة التي كانت في مقدمة الأمم علماً وثقافة، عهد الرشيد والمأمون، لاتعود، وقد استيقظت من النوم، ولا تقف، وقد مشت إلى الأمام، في منتصف الطريق، ولاترضى، وقد مدَت يدها الى العلى، بأن يكون قسم منها متقدماً وقسم متأخراً، قسم حراً، وقسم مقيداً.
على العراق أن يهيء نفسه للقيام بهذا الواجب القومي، عليه أن يجمع قواه ويوحدها ويوطد أركانها”.
ولما توفي فيصل الأول، ملك العراق سنة 1933، رثاه الريحاني بمقال بعنوان “مات الملك، عاش الملك” جاء فيه: “نكب العراقيون بوفاة فيصل، بل نكب العرب. وليس في البلاد العربية كلها، من عدن إلى حلب، ومن غزة إلى خانقين، عربي واحد لايشعر بالنكبة ويتألم حزناً وغماً”. ونلاحظ مرة أخرى أن الريحاني يستثني أفريقيا العربية من الوطن العربي.
ولم يتردد الريحاني في الدعوة الى العروبة في عقردار الطائفة المارونية التي كان بعض أبنائها يرون في العروبة وجهاً آخر للهيمنة الاسلامية. قال في خطاب ألقاه في الفريكة سنة 1934: “حيَا الله العرب، ونحن اللبنانيين منهم، حيَا الله العرب الممدنين للشعوب في الماضي، ونحن اللبنانيين ممن مشوا في الطليعة حاملين مصابيح الثقافة العربية والعلم والتهذيب. حيَا الله العرب الفاتحين، الحاملين النور إلى أوروبا يوم كانت أوروبا تعمه في ظلمات الجهل والهمجية”. وشدد على صفات العرب في فتوحاتهم وهي: “الايمان بالله، والاقدام، وعزة النفس، وإقامة العدل”.
ولم يكتف بالدعوة الى الوحدة العربية، وإنما اعبترها حتمية التحقيق. كتب في رسالة جوابية على رسالة وجهها اليه فريق من الشباب العرب سنة 1934: “إن الوحدة العربية ممكنة، بل هي محققة، إن لم يكن اليوم فغداً، بعد سنة أو بعد خمسين سنة. نعم، هي محققة لأنها مظهر من مظاهر التجدد والرقي ودرجة من درجات التطور القومي في كل مكان. الاتحاد الممكن في البدء هو الجزئي اللامركزي، لأن الحكومات الحاضرة العربية، المستقلة وشبه المستقلة، لاتتنازل، ولايمكنها أن تتنازل عن حقوق السيادة الاقليمية كلها. لايتم ويعم الاتحاد إلا تدريجياً. وقد تسبق الأقطار الجنوبية الأقطار الشمالية، لأن السيادة الأجنبية فيها هي أخف مما هي في الشمالية”.
رأى الريحاني وجود عقبات خارجية وأخرى داخلية تعترض سبيل الوحدة العربية. وأهم العقبات الخارجية “الدول الأجنبية الباسطة اليوم سيادتها أو نفوذها أي شيء منهما في الشمال وفي الجنوب، ومن الحكام الحريصين على سيادتهم القومية الاقليمية والخاضعين في سياستهم للنفوذ الأجنبي” وقدَر أنه من الصعب أن تذلل العقبات الخارجية بالتفاهم مع الدول المسيطرة (أي إنكلترا وفرنسا) لأن الحق في نظرها، أو بالحري في سياستها، ما يزال للقوة. وسياسة التعاون بين الضعيف والقوي لاتفيد الضعيف كثيراً. ومن الصعب أن تذلل العقبات الداخلية إذا كنا لانبدأ بالتضامن المعنوي الخلقي فنتدرج إلى التضامن الاقتصادي والسياسي. فيكون لنا من القوة، إذ ذاك، مايمكننا من مقاومة النفوذ الأجنبي الذي يحول دون الأمنية القومية الكبرى”.
وأكد أن التضامن العربي لايتم إلا إذا توافر الشعور القومي والتربية القومية: “التضامن لايقوم بغير الشعور القومي العام والتربية القومية الواسعة النطاق البعيدة المرمى، فتصبح الوطنية الاقليمية ذات قلب عربي نابض وصوت عربي صادق وروح عربية شاملة. الشعور القومي العام ينبغي أن ينمو وينتشر في العامة قبل الخاصة، وفي المحكومين قبل الحاكمين، فيضطر هؤلاء، إذ ذاك، إلى أن يماشوا الشعب أو يساقو بتياره وبعوامله الشعبية الغلابة. والتعليم الوطني العربي حياة الشعور القومي العام والتربية القومية العربية قوامه. علينا إذن بتعميم التعليم والتربية وتوحيد نزعاتهما بقدر الامكان. وخير وسائل النجاح في كل زمان هي النزاهة والاخلاص والثبات والتضحية”.
ومرة أخرى أكد على حتمية الوحدة بين البلاد العربية في رسالة جواباً على رسالة تلقاها من صديق في فلسطين سنة 1936، جاء فيها مايلي: “أجل ستعود بلادنا إلى وحدتها الطبيعية التاريخية. هذا اليقين، هذا الايمان هو عندي في منزلة حقائق الوجود الأولى. ستعود البلاد الى وحدتها الطبيعية التاريخية القومية، فننضم كلنا، اللبناني والسوري والفلسطيني والعراقي والنجدي والحجازي واليمني، تحت اللواء العربي الواحد، كما ينضم الانكليزي والاسكتلندي والاسترالي والكندي تحت اللواء البريطاني. وسيعتز اللبناني بسوريته وبعروبته كما يعتز السوري بلبنانيته العربية، وكما يعتز العراقي والفلسطيني والنجدي بأوطانهم الصغيرة وبوطنهم العربي الكبير. كيف لا، والبلاد كلها، من حلب الى عدن ومن العريش إلى خانقين كلها عربية. وإن الحلف العربي السعودي العراقي هو طليعة الحلف العربي الأكبر والوحدة العربية الكبرى، فبشر بذلك وأنشره”([28]).
كتب مقدمة لكتاب “المؤتمر القومي العربي” الذي صدر عن سكرتيريه المؤتمر المذكور في سنة انعقاده 1937 : “القومية العربية واحدة يتساوى فيها المسيحي والمسلم والدرزي والعلوي، ولاتقبل في مظهرها الحديث التجزئة إلى أكثريات وأقليات”. وهاجم الاستعمار في البلاد العربية بقوله: “الأمة العربية في نهضتها اليوم، وفي وحدتها غداً، ترفض أن يكون لدولة أجنبية سيطرة ما، مباشرة أو تذرعاً، على إحدى بلدانها الساحلية، في الشمال على البحر المتوسط، أو في الجنوب على البحر العربي، أو في الشرق على خليج العجم. ترفض أن يكون للأجانب شيء من السيادة أو النفوذ السياسي على شواطئ البحر الأحمر. الساحل الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط من إسكندرونة إلى حدود مصر، ساحل عربي، وسيظل عربياً، بالرغم عمَا أدخل على عروبته في اسكندرونه، وبالرغم عمَا يشين عروبته في لبنان، وبالرغم عمَا يهدد عروبته في فلسطين. فالأمة العربية في نهضتها اليوم تحتج على كل وضع من الأوضاع المجحفة بحقوقها، وفي وحدتها غداً ستسعى لازالته”.
وبشر بالعروبة حيثما حل، قال في خطاب ألقاه في الولايات المتحدة سنة 1937 حول فلسطين: “إني، وإن كنت لبنانياً، لمن العرب. وإني، وإن كنت أمريكي الجنسية، لمن العرب. إني لعربي الدم والقومية، عربي الحس والنزعة، عربي القلب والروح، كما أني عربي اللسان، وليس في البلاد العربية كلها، من حلب إلى عدن ومن القدس إلى بغداد، ماهو أقدس عندي من الفكرة الوطنية العالية التي تجمعني وإخواني العرب في مضمار واحد هو مضمار الجهاد القومي، أينما كان الجهاد ألزم. فاليوم في فلسطين، وغداً في لبنان، وبعد غد في سورية أو في العراق أو في شبه الجزيرة. إن البلاد كلها بلادي لها عليّ، في الأقل حق الشعور العربي. فاللبناني أخي والفلسطيني، والسوري والعراقي والنجدي والحجازي كلهم إخواني. وإني، في مثل هذا الموقف، أتمثل دائماً ببيت من الشعر لصديقي الشاعر الشيخ فؤاد الخطيب ([29]):
ولكل ربع من ربوعك حرمة وهوى تغلغل في صميم فؤادي.
وفي تناوله لقضية فلسطين ولثورتها سنة 1936 التي استمرت حتى سنة 1939 ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، أكد على الرابطة القومية بين العرب التي تدفعهم إلى التضامن مع شعب فلسطين. قال في خطاب ألقاه سنة 1937 بمناسبة الثورة الفلسطينية:
“إن الروح القومية، أيها السيدات والسادة، لأشرف الفضائل الاجتماعية. فاذا حافظنا على هذه الروح القومية-السورية اللبنانية الفلسطينية- ورفعناها الى مافوق الطوائف والأحزاب، والى مافوق التعصبات و النعرات الطائفية والاقليمية، نصير أمة حرة متضامنة مستقلة، و يصير لنا وطن حي موحد قوي ناهض مثل اوطان الناس. ومن أعز وطنه أعز نفسه”.
وكان يرى أن الأمة العربية مازالت مقسمة في طور التكوين والتوحيد، وتحتاج الى الروح القومية التي تؤكد وجود هذه الأمة قبل الاسلام وقبل المسيحية لتعزيز رابطة الوحدة بين أبنائها. كتب مقالاً للاذاعة الفلسطينية في القدس سنة 1938 لم يذع جاء فيه: “فالأمة المقسمة التي هي في دور التكوين والتوحيد، مثل أمتنا، تحتاج، في الدرجة الأولى، الروح القومية تتغذى بها فيشتد ساعدها ويشتد إيمانها. وهذه الروح القومية المنبثقة من الحقيقة التاريخية الكبرى هي الركن الأول من أركان النهضة العربية. فقد كان العرب قبل الاسلام وقبل المسيحية. وستبقى العرب بعد الاسلام والمسيحية. ليدرك ذلك المسيحيون وليدركه المسلمون. العروبة قبل كل شيء وفوق كل شيء”([30]).
وكعادته هاجم الطائفية والمذهبية وعدَها من عوامل تخلف الأمة وتشرذمها، كتب في المقال نفسه: “إن كل طائفة عندنا وطن قائم بنفسه. فالسنة والشيعة في العراق والمارونية وأخواتها في لبنان، والوهابية في نجد والزيدية في اليمن، إنها كلها من هذا القبيل واحدة. كلها تقدم مصالحها على المصلحة الوطنية الكبرى. والوطن الأكبر في عقيدتها القديمة شيء مائع ضائع في أدغال نعراتها ونزعاتها. لذلك يستحيل اليوم عندنا اجتماع العاطفتين الطائفية والوطنية، كما تجتمعان في انكلترا مثلاً أو في أمريكا. فكلما اشتدت العاطفة الطائفية أو المذهبية مثلاً ضعفت العاطفة الوطنية والعكس بالعكس”.
ولتجاوز الطائفية والمذهبية لابد من التمسك بالعروبة: “العروبة تجمعنا. العروبة توحدنا. العروبة تظهر القوى الكامنة فينا و تستنهضنا. إنها توطد الايمان، تشحذ الهمم، تذكي الشجاعة، تعيد الكرامة، تبعث الشمم، توحي المجيد من الأعمال والآمال. وفي مجموع هذه المزايا القوة الوطنية العظمى، القوة التي يحترمها الأوروبيون ولاتقهر ولا تذل”.
وعاد الريحاني الى تناول تجزئة البلاد العربية وانفصال بعضها عن بعضها الآخر. ويعترف بالفروق بين الأقطار العربية في مستوى التقدم الثقافي، ولكنه لايعتبره عائقاً للتحالف بين هذه الأقطار. قال في خطاب ألقاه في حفل أقامته “جمعية الشبيبة العربية الأمريكية” في نيويورك سنة 1939:
“يقول أنصار التجزئة والانفصال إن للبنان تاريخه الخاص وتقاليده الخاصة، وليس مايربطه بالعرب في شبه الجزيرة غير اللغة. وقد فاتهم أن للسوريين الحق بشيء من هذا القول، هم مع ذلك ثابتون في عروبتهم. السوريون يعلمون أن ثقافتهم أرقى من ثقافة أهل الحجاز واليمن مثلاً. وهم يعلمون أن الحكم الذي يصلح في نجد لايصلح في بلادهم-يعلمون ذلك حق العلم. ولكنهم فوق ذلك يعلمون بالتجربات المؤلمة، خلال عشرين سنة مضت، أن أصح التعاليم وأسمى الثقافات، وأرقى الأحكام الديمقراطية تمسي كلها في أيدي الأجانب المسيطرين أدوات هائلة للظلم والاستعمار”([31]).
لم يكتف الريحاني بالدعوة الى الوحدة العربية، وإنما حلل العقبات والمعوقات التي تعترض سبل تحقيقها. ففي كتابة “ملوك العرب: رحلة في البلاد العربية “الجزء الأول (الحجاز-اليمن-عسير-لحج والنواحي المحمية) ومن هذه العقبات: العصبية القبلية، والتعصب المذهبي والنزعة الطائفية. كتب حول “الوحدة العربية: المعوقات”:
“إن روح القبائل لاتزال سائدة في البلاد العربية ومتغلبة في أكثر أقطارها على الروح القومية” وأشار الى العداء بين القبائل القحطانية (اليمنية) والقبائل العدنانية. والخلاف بين قبائل ربيعة في نجد والقبائل المضرية في الحجاز. كما ذكر العصبية المذهبية والطائفية الدينية من معوقات الوحدة. ولكنه رأى أن التغلب على هذه العصبيات ليس السبيل الوحيد إلى الوحدة العربية. وللاسراع في تحقيق الوحدة العربية، دعا الريحاني الى التوسع في انشاء المدارس الوطنية العامة وإنشاء طرق المواصلات الحديثة لتسهيل الاتصال بين الشعوب العربية.
وقدم مشروعاً عملياً في عشرينات القرن العشرين للتحالف العربي يقوم على مبايعة الشريف الحسين بن علي خليفة على المسلمين باعتباره قرشياً ومن سلالة الرسول محمد (ص)، وجعل مقر الخلافة الاسلامية في مكة. وبالمقابل إقترح أن يتولى زعامة العرب عبد العزيز آل سعود ليحكم شرقي شبه جزيرة العرب، والامام يحيى حميد الدين ليحكم غربي شبه الجزيرة العربية. واقترح بقاء الملوك والأمراء العرب في بلادهم دون تغيير وضعهم.
ودعا إلى عقد مؤتمر عربي عام في مكة يحضره كل الأمراء العرب ليبايعوا الحسين بالخلافة، وليبايعوا الامام يحيى على الملك في غرب شبه الجزيرة العربية والسلطان عبد العزيز على شرقها، وإبرام معاهدة بين الملكين للتعاون السياسي والاقتصادي.
لقد كان أمين الريحاني مفكراً عربياً مجدداً. كشف عن أمراض المجتمع العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وعن الأخطار الخارجية التي تهدد العرب ومستقبلهم. وكانت رؤيته للواقع العربي صائبة ونظرته الى المستقبل سليمة. وجاء شرحه للقومية العربية ودعوته الى الوحدة العربية بأفكار سهلة وبسيطة.
الاتجاه التأملي
أولًا: الاتجاه التأملي في نتاجي جبران خليل جبران.
إن تأمل الطبيعة يبعث الراحة والسكينة في النفس، فنجد الإنسان يهيم في جمالها محاولا كشف أسرارها وتوظيف الطبيعة في الأعمال الأدبية ليس وليد العصر الحديث بل كان منذ القدم فاستخدام عناصر الطبيعة في جل الموضوعات لم يتعد المظاهر الخارجية وظل مرتبطا لأوصاف مادية([32]).
لقد تغيرت هذه النظرة في العصر الأندلسي حيث كانت الطبيعة عندهم من أهم عوامل الإبداع الأدبي وهذا ما أثر في أشعاره فأصبحت منبعا للذة والمتعة لكن نظرتهم ظلت سطحية غير معمقة حيث يقول خليفة محمد التليسي: «إنغماس الروح الاندلسية في الحضارة إنغماسا أصبحت معه الطبيعة في أنظارهم وسيلة خاصة من وسائل اللذة لا منبعا خالدا من منابع الإلهام([33]) .
وفي العصر الحديث تطورة النظرة إلى الطبيعة وأصبحت أكثر عمقا خاصة عند الرومانسيين وهي تعبر عن صدق المعاناة كونهم يمجدون الذات الشاعرة ومظاهر الجمال. و معنى كل هذا أننا لا نستطيع أن نفصل بين الفن أو الأدب والطبيعة ولقد تجلت الطبيعة واضحة المعالم عند شعراء المهجر منهم مخائيل، خليل جبران.
و جبران خليل جبران وهذا الأخير تجلت عنده الطبيعة بأبهى صورها وأعمق مدلولاتها مصورا ذاته من خلالها معبرا عن نظرته للحياة والموت.
فالطبيعة اللبنانية بجمالها الخلاب وتنوعها الفريد شكلت مصدر إلهام دائم وعميق لجبران خليل جبران هذا الارتباط بالطبيعة يعكس ليس فقط تأثير بيئته الأولى على تشكيل فكره وروحه الأدبية، بل يبرز أيضاً الدور الجوهري الذي تلعبه الطبيعة في فهم جبران للوجود الإنساني والروحي([34]).
الطبيعة كمصدر للإلهام والتأمل: جبران الذي نشأ في قرية بشري اللبنانية، كان
محاطاً بجمال الجبال والأودية والغابات التي تشكل المسهد الطبيعي للبنان. هذا
الانغماس في الطبيعة منذ الصغر زرع فيه خساً عميقاً بالانتماء إلى الأرض وتقديراً
للجمال الطبيعي الذي سيظل يمثل مصدر إلهام في كتاباته([35]).
الطبيعة، في أعمال جبران، لا تظهر فقط كخلفية جمالية، بل تتخذ دوراً أكثر فعالية
في تقديم دروس حول الحياة والموت النمو والتحول. يستخدم جبران العناصر
الطبيعية كرموز ومجازات تعبر عن المشاعر الإنسانية والأسئلة الوجودية، مما يمنح
أعماله طبقة إضافية من العمق والتعقيد.
الطبيعة كمرآة للروح الإنسانية: تعكس الطبيعة الروح الإنسانية بكل
تعقيداتها وتناقضاتها. الجبال ترمز إلى الثبات والعظمة، بينما تمثل الأنهار والجداول
الحركة والتغير، مشيرة إلى الرحلة الدائمة للروح نحو الكمال والتحرر من خلال هذا
التشبيه، يقدم جبران الطبيعة كمعلم وموجه، يكشف عن دروب الحكمة والتجديد
الروحي. ([36])
الطبيعة كمصدر للتحرر والتجديد: في عالم جبران، تقدم الطبيعة ملاذاً من صخب
الحياة اليومية وضغوطها مكانا للتحرر من القيود الاجتماعية والبحث عن السلام
الداخلي. يرى جبران في الاتصال بالطبيعة طريقاً للتجديد والإلهام، حيث يمكن للفرد
أن يعيد اكتشاف ذاته ويستعيد توازنه الروحي.
فقد عاش جبران في أحضان الطبيعة ببلدته وكان منذ صغره كثير العزلة والتأمل لمحاسنها ولقد انطبعت في مخيلته رغم رحيله عن لبنان وظلت تلازمه وثبت فيه الشوق والحنين وكانت دائما ملاذه الوحيد من المدينة المليئة بالشرور فقال: «أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع…. وأنا أيضا أذكر أيضا البقعة الجميلة في شمال لبنان فما أغمضت عيني عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحرا وهيبة وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة…”.
ولقد كان للحب أيضًا أثره في نفسية جبران واستطاع أن يبين قيمته وتأثره فقال: ” فالحب قد أعنق لساني فتكلمت، ومزق أجفاني فبكيت، وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت”([37]).
ورغم فراقه عن محبوبته لم تتغير نظرة الحب لديه، ولما كان متأثرا بالطبيعة والحب استطاع المزاوجة بينهما ليعبر عن مكنوناته مستوحيا تعابيره من الطبيعة فاستقى منها مثاليته عن الحب فتعبير جبران و اقتباسه عناصر الطبيعة يبين حالته النفسية فيصف الله والسكينة وهو مع حبيبته وكأن عناصر الطبيعة تحرسها ولكن سرعان ما تتبدل أحاسيسه فينقلب الجمال إلى قبح فتفسير الحالة النفسية عند جبران وفقدانه حبه الأول جعله ينظر للحياة نظرة تشاؤمية يطفى عليها الحزن والشقاء مليئة بالألم فاستبدل الربيع بالخريف والسعادة بالشقاء وجبران مرهف الإحساس شديد الميول الى الخيال، تفرد بأسلوبه في الكتابه ولقد تحول حبه لحبيبته إلى حبه الله معنى هذا أنه كان مخلصا فيه فجمال محبوبته وحبه لها جعلاه يتقرب إلى الله الذي هو صانع هذا الجمال وباعث هذا الشعور في قلبه [38])..
فجبران يؤمن بدور الفنان الذي يحمل بداخله الصفات النبيلة للبشرية جمعاء دون قيود ولقد اتخذ المسيح مثالا وقرأ الإنجيل واستمد منه الكثير من الفضائل وبعد كان في البداية متشائما بالسخرية على كل القيم، أصبح فيما بعد أكثر عمقا وهدوءا وهذا ما يتجلى في إبداعاته “النبي”، “عيسى ابن الإنسان ” وغيرها وفي هذا الصدد تقول سلمى الخضراء الجيوشي: …. حيث كان جبران الرومانسي كاهن النبوة والرؤية وشاعر الإلهام الحميم، لقد مزج بحس ، النمط الرومانسي الأمثل للمشكلات الاجتماعية والدين والفلسفة في نظام واحد عظيم”([39])
ويعتبر كتاب النبي من أهم الكتب و أكثرها انتشارا صدر عام 1923 بالغة الانجليزية عرف رواجا كبيرا في أمريكا و العالم وترجم لأكثر من أربعين لغة ، بدا التفكير بكتابته قبل صدوره بإحدى عشر سنة و بعد عدة محاولات فاشلة لعدم نضج و ارتقاء أسلوبه و تجربته إلى أن أصبح أكثر حكمة ومعرفة بقواعد الكتابة فأعاد كتابته و بصورة مبتكرة و بهذا استطاع الوصول إلى قمة الإبداع الأدبي والرؤية الفكرية العميقة فكان بمثابة النبي الذي يحمل الرسالة إلى البشرية التي تحمل القيم السامية.
قدم جبران في هذا المؤلف لي فلسفته أفكاره وآراءه طامحا في التجديد ضم هذا الكتاب ستة وعشرون فصلا عدا المقدمة والخاتمة تناول فيها موضوعات متنوعة منها: الحب، الزواج، الأولاد العطاء، الماكل والملبس العمل، البيوت، الجريمة والعقاب، الشرائع، الحرية، العقل الي اللذة والألم، التعليم، الصداقة، الجمال، الدين والموت([40])
وفي هذه الموضوعات يقول انطوان: ” في هذه الموضوعات يمزج جبران بين المبادئ الصوفية والحكم العلمية والقيم الروحية وفي كل صفحة منه تجد فكرة جميلة إما الأسلوب فشاعري في إطار طريق يتألف في حكاية اسمه المصطفى”([41]).
والمصطفى هو جبران نفسه ينتظر في مدينة خالية اسمها أورفليس ويرمز إليها بالمجتمع البشري الذي يعيش فيه والسفينة هي الموت التي تنقله إلى ارض أجداده هي الآخرة والبحر هو الله وفي يوم ودعه يلقي عليهم خطيا يضمنها تعاليمه.
ومن ناحية الخير والشر، كان جبران دائما متفائل بالخير ويقول بعدم وجود الشر في الحياة إنما الشر هو خير ناقص، والخير من يسعى إلى منفعة الناس من ذاته ولكن ليس شرير إذا سعى وراء منفعة نفسه فهو خيرا ناقصا يسعى للكمال. فالإنسان الخير يرمز إليه بالسيل المتدفق أما الذي ينقص الخير في قلبه فهو كالجدول الهادئ.
أما الصلاة والدين وإذا تم عن الصلاة قال إن الناس يصلون وقت الضيق ويا ليتهم يصلون وقت الفرح، فالصلاة ترفع صاحبها إلى أعالي السماء لتجمعه بالمصلين، فالصلاة تسبح بها البحار، الجميال… والناس بالتأمل والتفكير في الطبيعة يبث الله في نفوسهم مشاعر تجرى على شفاههم كلمات يتلمسونها بقلوبهم، فالصلاة إنطلاق الروح في الفضاء داعية للخير([42]).
أما الجمال، يقول جبران أن للجمال عدة مفاهيم بحسب أذاق الأشخاص فيقول المجروح أنه رفيق حنين ويقول العاضب انه قوة وبطش فهو كعاصفة تهز الأرض تحت أقدامنا ولكل من الحارس والعامل مفهوم خاص ويلتمسون حاجة من وراء وصفهم له غير أن الجمال عند النبي ليس بالحاجة وإنما قلب مفتون ونفس مسحورة، فالجمال لا يرى بالعين بل نحس به بقلوبنا فنرتاح لعذوبته.
وهو يقول:
وما هو بصورة التي تود أن تراها،
الجمال مرأة خالدة وأبدية، فهو الحياة بكل وجودها وأيامها .
ولقد سادت النزعة التأملية كتاب النبي جبران الذي ظل يناشد الطبيعة بعيدا عن المدينة متأملا أوضاع الناس فإبتسم أدبه بالطابع الفلسفي التأملي المتمثل في رموز الطبيعة والحياة، كما آمن بالخلود ووحدة الخير والشر فكانت حكمته تدل على طول تأمله ومعرفة الكون ورؤى جديدة تبعث بالحب وتسمو إلى المثالية.
ثانيًا: الاتجاه التأملي في نتاج أمين الريحاني.
على الرّغمِ من أن أمين الريحاني (1867-1940) تناول بما تميّزَ به من تنوُّعِ مواهبه بالبحثِ والتعليق مواضيع مختلفة ومتعدِّدة، وتقصّى في بعضِ الأحيان ما استعصى وانغلق من الأمور، فإنَّ الموضوعين اللذين استحوذا على اهتمامه وسيطرا على تصوّره وخياله كانا الدّين والحرّية. فهذان الموضوعان يُطلاّن بوضوح بارز جدّا من كلّ أعماله باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، سواءٌ أكانت كتبًا أم مقالاتٍ أم شعرًا. وقد اتّخذ الريحاني أستاذًا له من أبي العلاء المعرّي الذي ربّما كان أشعر شُعراء العرب قاطبةً عبر التاريخ. وكان المعرّي نفسه من بين الذين استحوذ على اهتمامهم موضوعا غاية الحرّية، وحقيقة الدّين([43]).
برزت في غمرة هذه الأحوال والظروف المضطربة مجموعة مرموقةٌ من المهاجرين العرب إلى الولايات المتّحدة، بعضهم من السوريين، وغالبيّتهم من اللبنانيين، الذين فرضوا تأثيرهم القويّ على النهضة الثقافيّة العربيّة، وعلى التقارب الديني، وعلاقة التبادل الثقافي بين الغرب والعالم العربيّ. وكان أعضاء هذا الفريق من الأدباء والكتّاب والشعراء والفلاسفة—الذي ضمَّ أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة—بمنزله السُّفراء الثقافيين بين الشرق والغرب في فترة تاريخيّة هامّة، وذلك عندما كانت موجة التحديث والعولمة تجتاحُ العالم العربي نتيجةَ اكتشاف تروته النفطيّة الجديدة، وفي الوقت الذي كانت تبرزُ فيه أميركا كعملاقٍ للنشاط الاقتصاديّ والتقدّم الماديّ. واتخذ الريحاني، وغيره في رهطِه، من حدة أقلامهم ورؤيتهم الشاعريّة مصدر وحي استشفّوا منه بوضوح ثاقب طبيعة التحدّيات الروحيّة التي تجابه أميركا والعالم العربيّ على حدّ سواء. ([44])
من أهمّ المواضيع التي يبدو أنها كانت مصدر وحي لفكر أمين الريحاني الوئام بين أديان العالم. فخاض في بحث هذا الموضوع مرّة بعد أخرى، وكرّره في أعماله كما في قصيدته “أنشودة الصوفيين،” ومقالاته في كتاب “جادّةُ الرؤية،” ورائعته “كتاب خالد”، وغير ذلك من مقالاته ومحاضراته عن “التطرّف” و”التساهل الدينيّ” و”إصلاح الأمّة”، وخطابه في حفل التخريج بكلّيّة عالية الوطنيّة في عام 1922. وكان من النتائج الملازمة لمبدإ الوحدة والانسجام بين الأديان النظرة المتعمّقة التي طالما عبّر عنها الريحاني، وهي أن أي فرقة أو صراع بين الأديان إنّما هما حصيلة الفساد أو فقدان التفاهم بين قادة ورؤساء المؤسّسات الدينية النظاميّة الرسميّة. وها هو الريحاني يتوجّه بالدّعاء “إلى الله”، على لسان بطله خالد في الكتاب المسمّى باسمه، فيقول:
عبثًا طلبتك في أديان الناس،
عبثًا بحثت عنك في سراديب عقائد الناس،
ولكنّي لقيتُ في كتب العالم المقدّسة
بعض آثار سماويّة طامسة،
فلقد توضّح لي حرف ساكن من اسمك في “الفيدا”،
وحرف في “الزّند آفِستا”،
وحرف في الإنجيل، وحرفّ في القرآن،
أجل—وفي كتاب الجمعيّة العلميّة الملكيّة
وسجلاّت جمعيّة المباحث النفسيّة
بعض الحركات التي لا يحسن الطفل البشريّ
أن يحرك بها الأحرف الساكنة من اسمك.
وانّى لأمم الأرض وهي في طفولة الحياة
ان تحسن النطقَ به!
من يهدينا إلى تلك الهمزات، همزات الوصل الإلهيّة
التي تجمعُ بين الكواكبِ البعيدةِالمتقابلة
في أطراف الأفلاك السماويّة؟
فلقد خطّت على نقاب السرّ الأبدي كلماتٌ،
وامّحت،
ثم خطّت وامّحت.
كل أمة من أمم الأرض أدركت حرفًا
من هذا الطلسم العظيم،
لكن الحركات وهمزات الوصل
لا بد أن يأتي بها علماء المستقبل
لتحيي جمودا في أحرف الكتب المقدّسة الساكنة،
وتبعث فيها سلاسة الماء والهواء،
وتزيل اللكنة من لسان هذا البشري الطفلِ
ومن قلبه([45])
تحدّث الريحاني في إحدى مقالاته التي كتبها بالعربية عما شعر به الأنبياء والرسل من يأس وقنوط، وما انتابه هو شخصيًّا من يأسٍ وهو يشهد فساد الدين وانحلاله، فكتب:
… ووقف الأنبياء في ربيع اليأس فصرخوا من أعماق قلوبهم قائلين: سمع الإنسان كلمة الله وظل عتيّا. وآمن الإنسان وظل ضالاً. ومشى الإنسان على الاثنين وهو لا يزال في كثير من صفاته مثل ذوي الأربع. علّمناه التوحيد وهو لا يزال يقول: عيسى ومحمد وبوذا وزردشت. علمناه المحبّة وهو لا يزال يصنع المدافع والقنابل والبارود. علّمناه الرحمة والعدل وهو لا يزال، في سبيل شهواته، يطأ بقدميه القلوب الدامية([46]).
كان الريحاني يؤمن إيمانًا صادقًا بالوحدانيّة بكلّ معناها ومغزاها: وحدانيّة الإله، وحدانية الطبيعة، ووحدانيّة الإنسان. ويوافق إيمانه بالطبيعة التقدّميّة للحقيقة الدينيّة واستمراريّة الإرشاد الإلهي تعاليم الدين البهائي التي تناولها بالحث الموسّع في “كتاب خالد”. وقد أعلن الريحاني في وصيّته الأخير التي كتبها في عام 1931 أن دينه هو الإيمان بوحدة كل الأديان:
إن من الموحّدين، وإن في مرآة توحيدي لتنعكس وجوه الأنبياء والرسل أجمعين—كنفوشيوس وبوذا وزردشت وسقراط وموسى ويسوع ومحمّد وبهاءالله … –إنهم كلّهم لَمِن ينبوع واحد، وإن وجوههم كلها لتتآلف وتتمازج ثم تنعكس وجها واحدًا هو الرمز الأقدس لوجه الله.
أوصيكم إذن بالتوحيد. فالدين نظريّا هو الصلة الحيّة النيّرة بين الإنسان وربّه الأوحد. والدين روحيّا هو الاستمتاع بما يكشفه الاجتهاد، دون واسطة البتّة، من مخبئات هذه الصّلة الفريدة الخفيّة. والدين عمليّا هو أولا إدراك الحقيقة الإلهية في كل من علّم الناس صفحة، بل حرفًا في كتاب الحب والبر والتقوى. ثم هو الأخذ عنهم والاقتداء بهم، فكرًا وقولاً وعملاً، كلّ على قدر طاقته. وما يحمّل الله نفسًا فوق طاقتها([47]).
الاتجاه الإنساني
أولًا: الاتجاه الإنساني في نتاج جبران خليل جبران.
إن أبرز ما يميز الإنسان هو وجود الروحية فيه وحقيقة وجودها لا تقل أهمية عن حقيقة وجوده ، وأهم شيء في ذلك النزعة الإنسانية التي ارتبطت على نحو ما بما يدعو إليه الدين من تسامح وإعلاء الفكر الإنساني، وكانت هذه القضية وراء انشغال جيران الدائم في البحث عما يخلده من صدق وعفة، ووفاء وأخلاق([48]).
الحديث عن الإنسانية الجبرانية حديث ذو شجون، يتغنى بمفاتن الانسان ويحس بأوجاعه في كل نبضة من نبضات قلبه الحساس، ومن محبة لبنان ينطلق إلى محبة العالم بكل مافيه من إخلاص الإنسان وحنين الشاعر، وحيوية الفنان وهي صفات أديب ندعوه جبران، قد كان أنسانا يحب كل إنسان على وجه الأرض، متجاوزا بحبه حدود الدين والجنس والاقليم، وإذا تساءلنا ماهي الإنسانية في الأدب وكيف تبدو معالمها عند جبران ؟ وجدناها حسب الناقد أنطوان غطاس كرم تتقلب على الوجوه الخمسة التالية([49]):
- هي بمعناها العام كل نظام فكري من شأنه العناية الجلي بالانسان.
- وأطلقت التسمية على الحركة الفكرية التي هدفت إلى فك تقاليد العصر الوسيط في اللاهوت والفلسفة.
- كما أنها أطلقت على فلسفة (أوغست كونت) التي جعلت الانسان مرتكز الألوهة.
- وأن رائد أربابها في ألمانيا إزالة الفوارق والأخلاقية ودحض العرق الذي أقرها ليبلغ الانسان آخر حدود كماله وتتحقق ذاته على الوجه الأتم
- وأن هذه النزعة الانسانية الشاملة كانت وليدة الرجوع على التنقيب في الثقافة الكلاسيكية جملة فخرجت عن حكمة واسعة وأخلاقية صافية.
وإذا قلبت هذه الوجوه الخمسة وجدناها تلاقي واقع جبران وفنه بعنايته بشوؤن الإنسان، فقد كان في أول عهده في الكتابة يخاطب إنسان لبنان من خلال أبطاله المحليين من بيئات مختلفة من لبنان ذلك أن الإنسانية لديه عبارة عن مبادئ سامية، ونشر للمثل العليا بين الناس ومحاربة القيود والنظم التي تباعد بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعمل على خلق مجتمع انساني مثالي يسوده العدل والرحمة والمحبة([50]).
تبثق المحبة من العطاء وهو معطى يدرك جبران من خلاله سبل الوصول إلى الحقيقة الإنسانية، فالحب والمحبة حدود متداخلة لديه: “حب” علوي لا يعرف الجند لأنه غني، ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح ميل قوي يغمر النفس بالقناعة مجاعة عميقة تملأ القلب بالإكتفاء([51]).
بث جيران في كتاباته حبا صوفيا له أبعاد ميتافيزقية، فقد جرده من الارتباطات الدنيا، إذ جند كل مواهبه العالية لقيادة البشرية إلى الجمال والخير والحق ، وإلى الحب والسعادة والحرية فالمجتمع الإنساني ، حقل غرس فيه عصارة روحه وشعوره وفيض عقله وخياله، وإن كان شاعرا متمردا في (الأجنحة المتكسرة) و(الأرواح المتمردة) و(عرائس) المروج ، فقد كان حالما في (دمعة وابتسامة وحكيما في (المواكب والهادي المبشر في النبي)، لكنه يبقى جبران المحب للإنسانية في كل كتبه([52]).
هاجم جبران في مرحلة تمرده الكهنة والإقطاعيين المسيطرين على الأجساد، ورأيناه يرسم لنا الحماقات التي تنغص سعادة الإنسانية، ويسخر كل شاعريته وخياله، في محاولة الوصول إلى كل قلب وضمير وكل إدراك، ليوقظ في الناس شعور الحي بإنسانيتهم التي يجب أن لا تضعف، ولعل من جملة العلاقات الإنسانية التي عالجها جبران التسامح يرى أنه ” لكل عظيم قلبان، قلب يقطر وقلب يصبر“([53])
القلب مصدر قانون الطبيعة البشرية ، والقلب هو الباب الذي يطل على الفردوس الأرضي، وهو حلقة الوسط بين الإنسان وأخيه الإنسان، القلب ينبوع يمتلئ بالمحبة، كان جبران شاعرا يرسم بدم القلب ويكتب بعصير الروح، فله رؤية في هذا نوع من الكتابة حيث يقول : ” ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب”([54]).
وقد عبر بالخطوط والألوان عن نوازع النفس البشرية، وصور آلامها وآمالها وبكى لأوجاعها وغنى أفراحها، ونجده قد ارتبط بالحياة وأخذ يردد: ” لو شئتم تسميتي فقولوا إنني من حزب الحياة” لأن أسمى مستوياتها هو الحب فهو شريعتها عندما يلتقون الناس وأمامه يتساوون وعلى عتباته يزول ما بينهم من فروق ويذوب ما بينهم من خصومات وعن الحب تتفرع جميع مظاهر الحياة([55]).
يرى جبران أن العمل أساسه الحب وبالعمل ” النافع يفتح العامل قلبه ومن أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها”([56]).
العمل الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة، كونه من مظاهر العبادة وإن ربط جبران العبادة بالمحبة، ذلك أن العمل هو الذي يقربنا من حقيقة ذواتنا وحقيقة السعادة، إذ خلع جبران مفهوم العمل من أجل كسب الرزق أو المنفعة، ليدخله إلى صلب المحبة أين يخلع النسان ذاته المادية، ويرتدي وشاحا نورانيا أثيريا وهو يعمل ليحب الآخرين، ويخدم الحياة متوخيا الحياة في عمله، ذلك أن ” الحياة ظلمة حالكة إن لم ترافقها الحركة والحركة تكون عمياء، ولا بركة فيها إن لم يرافقها العمل، والعمل يكون باطلا بلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة”.
انطلاقا من ناموس المحبة الذي هو فوق الشرائع، يخاطب جبران الإنسان إذ يرى جميع الناس إخوة ولا يجوز أن يتخم أخ ، بينما يجوع الأخ الآخر وفي ذا هتف قائلا: ” أنت أخي وكلانا ابن روح قدوس .. خذ مني ما شئت فلست بسالب غير مال لك الحق، بقسم منه وعقار استأثرت به لمطامعي”.
يذهب جبران إلى معنى العطاء من خلال نظرته للأبعاد الصوفية اللامتناهية للعطاء، فلا يكفي أن يعطي الانسان من ثروته بل عليه أن يعطيه من ذاته أيضا، ويجنبه مرارة السؤال، فكل ذي حاجة يستحق العطاء طالما أنه استحق نعمة الحياة، لأن الحياة هي التي تعطي وليس الإنسان المعطي ” … جميل أن تعطي من يسألك وأنت تعرف حاجته… الحق أقول لك أن الرجل الذي استحق أن يتقبل مي عطية الحياة، ويتمتع بأيامه ولياليه هو مستحق لكل شيء منك… لأن الحياة التي تعطي الحياة، في حين أنك وأنت الفخور بأنه قد صدر العطاء منك، لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على ذلك. ([57]) “
في فم جبران نشيد عاطفي راعش يتغني بالإنسان والحب والحياة، وكل أحاديثه عن هذه المظاهر، حديث ينطوي على انسانية مرهقة أساسها ايمانه بقع الانسان وصلاحه وصفائه ونقائه من الشرور، فإن قال : ” إني أكرهكم يابني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة، أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم ” فهذه الكراهية إن كانت لأمته، إلا أنها في الحقيقة حبا مقد مخلصا لأنه أقر على ذلك بنفسه:” لا بأس فإني سأحبكم أكثر… نعم أكثر فأكثر، ولكني سوف أسدل على محبتي ستارا من البغض وأستر عواطفي بشديد كراهيتي”([58])
لقد عبر جبران عن الانسانية المقدسة التي هي روح الألوهية على الأرض، وذلك من خلال كتابه (دمعة وابتسامة) مرحلة الحلم، فقد كان غريبا عن بلده وعن الأمة الواحدة، كون الأرض كلها ، وطنه، والعائلة البشرية عشيرته كما وجد أن الانسان ضعيفا ومن الصغر أن ينقسم عن ذاته، والأرض ضيقة. ([59])
ومن الجهل أن يتجزأ إلى مماليك وإمارات، فوحدة الجنس البشري فوق الزمن والتاريخ والحدود، وتتمثل في الأمتدادات الثقافية والخلقية، والسياسية ولا يتعارض الإخلاص لها مع الإخلاص القومي، ويقول في هذا:” أحب مسقط رأسي ببعض محبتى لبلادي وأحب بلادي بتسم من محبتي لأرض وطني وأحب الأرض بكلتي لأنها مراتع الإنسانية وروح الألوهية ” ([60])
والأديان روابط تشد الانسان إلى أخيه البعيد فهي في اختلافها دين واحد، ومع ايمان جبران بوحدة الأديان التي تجمع العالم العربي، فإنه يحتفظ في نصف صدره يسوع ويمجد في النصف الأخر، ويهمس إلى كل مواطن يعيش في العالم العربي : ” أنت أخي وأنا أحبك ساجدا في جامعك راكعا في هيكلك ومصليا في كنيتك فأنت وأنا دين واحد وهو الروح وزعماء فروع هذا الدين، أصابع ملتصقة في يد الألألوهية المشيرة إلى كمال النفس”([61]).
وقد غدى حكيما يكشف عن حقيقة قلبه المتفجر بالحب الشامل، والتمسنا ذلك في كتابه (المواكب) فقد سعى إلى اصلاح الناس ومؤسساتهم لما فيه خير الناس، الذي أبكته تعاستهم ثم تفجرت بعد ذلك غضبه عليهم، وقد جاء ذلك على لسان طنسي زكا: ” إن أسلوب التقريع يجدي في ايقاظهم أكثر مما يجدي أسلوب التفجع والمشاركة بالمأساة”([62]).
شرح جبران حقيقة مشاعره عندما صب غضبه عليه ، لكنه في الأعماق قلب ينزف دما، وتجد نفسه المشبعة بالرقة ومحبة الخير معلنًا بنغمة شجية: ” ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه عن أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة” . كل هذه الآلام الكبيرة التي عرفها حولها إلى طاقة خصبة منتجة. تدفعه إلى عمل وأمل أكبر ولاسيما أنه عرف الخطيئة بنفسه وعاش فيها، وعن طريق تجاربه أدرك نقائص النفس الإنسانية، ولم يكن أمامه من سبيل إلا أن يخرج لنا كتابه ( النبي) ويقدم فيه صورة نفسه والصورة الصحيحة للإنسان الكامل الذي أسفرت تجاريه عن ضرورة وجوده الإصلاح نفوس البشر وكان هذا الكتاب (النبي) إنجيلا تناول فيه شؤون الإنسانية الأساسية، كالحب والخير والشر والجمال والموت([63]).
ولئن كان مبشرا بأفكاره المنطلقة في عالم الحق المندفعة في دنيا الإنسانية الرحبة، ذلك أن نزعته ودعوته إلى الحياة الفطرية لم تنجح في مواجهة مشاكل العصر الصناعي الحديث، ولم يزود الإنسان بزاد جديد، كان نبيا ظهر في غير عصره، وفي غير وطنه ليتيح للمحزونين الهروب إلى عالم خيالي فيه الخلود والطمأنينة ذلك أن قلبه كان يضطرم حبا شفافا نحو الناس جميعا، والعالم كله. ([64])
فقد جعل النفس الحساسة تشعر برغبة في البكاء ولاسيما أن روحه وحه تضم كنوز الحب الصافي، فالمحبة تكلل هامة الإنسان المحب وترفعها إلى أسمى مستويات الحب، ونجد هذا واضحا في هذا المقطع من الكلام: ” سأحيا عبر الموت وسأغني في أذانكم، حتى بعدما ترجعني موجة البحر الأوسع إلى أعماق البحر المديد، سأجلس في مركبكم ولو بدون جد وسأذهب معكم إلى حقولكمروحا غير منظورة، وساتي إليكم وأجلس قرب مواقدكم ضيفا لا يرى”([65]).
ولعل مايدل على شمول حس جبران وإنسانيته العميقة، ذلك الشعور بالألم تجاه نفسه، وهذا الشعور الروحي فيه انطلاق لأبعاد الكينونة الإنسانية، فالسعي الدائم على تخفيف الشقاء الإنساني، أو بالأحرى المحبة الصحيحة لكل ما في الوجود بغير تفضيل أو تفريق جعلنا نحس مع جبران على أنه فرخ نسر يريد التحليق إلى أجواء النور فروحه المتأججة الشاعرية تهمس إلى الذات الكامنة في البشر جميعا وكذلك ايمانه بأنه روح نبي يهمس بالحكمة، وبث السلوى ويحرك الأمل جعله بخط طريق الحياة المثلى متأثرا بالأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الاشراقية حتى أنه ذهب في تأملاته إلى اعتبار الحياة طريقا إلى الموت، والموت طريقا إلى الحياة بالتناسخ، والله روح موزعة في أجزاء الكون، والله يستريح في العقل والوجود عنده وحدة فيقول :” كل مافي الوجود كائن في باطنك، وكل مافي باطنك موجود في الوجود، وليس هناك حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها… في قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار.. وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة”([66]).
هكذا كانت تعاليم جبران الناطقة بإسم الألم والحياة، تتمحور حول ذات باطنة نزاعة إلى مواجهة أحاجي الوجود إلى إصلاح عالم الإنسان، ناشدا إلى أرض جديدة يحيا عليها إنسان سعيد، يتغنى بالحب النابع في جميع المرئيات والمحسوسات التي ترتبط بالطبيعة، لأنها الروح الكلية الأزلية والأبدية المملؤة بالجمال والمحبة.
يعتبر جبران الله مصدرا لقانون الطبيعة الكونية، ولئن صور نفسه رسولا ذلك أنه عانى قضية الغربة والوحشة وأدرك أنه مسخر لبناء معالم الانسانية بشعور إنساني تترقرق في جنباته عاطفة حقة، وتجده يقول عن ذلك:” منذ سلمني الناس مقالدهم وأنا أدأب النهار والليل في سبيل إسعادهم، وأجترح العجيبة بعد العجيبة لأنقذهم من بؤسهم وشقائهم ” ويزيد في إنسانيته تجاه الناس قائلا: ” ووجدتهم يسلكون إلى السعادة شتى المسالك، ويطرقون شتى الأبواب فهديتهم إلى مسلك واحد وهو أنا، أنا هو المدخل والمخرج وأنا الدليل والحجة، تلك هي العجيبة الثالثة”([67]).
ما يمكن قوله عن انسانية جبران أنها اقترنت بنسق النبوة الرائية، فكان صانع أصداء ايماءات انجيلية، خاطب بها الأرواح والقلوب، وحمل بين أنامله جنون ضميره أدبا أراد أن يتجنح ليطير في سماء الخيال، مازجا بين الوجدانية الرومانتيكية، والرمزية التي يلتبس معناها أحيانا، ولكنها بالرغم ذلك تترك في روح القارئ شعورا قريرا بجمال أسلوبها وروعة صورها.
ثانيًا: الاتجاه الإنساني في نتاجي أمين الريحاني.
لقد ظهر أمين الريحاني كأديبا شموليا في موضوعاته، فلم يكتف بعرض مشاهداته الجغرافية، او معارفه التاريخية، بل عاش تجربة انسانية عميقة الغور مع البشر الذين شاهدهم، وقابلهم، وتعرف عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم، والقيم التي تسود مجتمعاتهم. وكان انسانيا في أفكاره وأبعاده التي استخلصها من محاورته الانسان في كل أرض زارها. وكان ثائرا على التخلف، والتردي، والكذب الاجتماعي والسياسي، وعلى العادات الجافة، والتقاليد التي تفضل المظاهر على الجوهر البشري والانساني. وكان ناقما على الظلم الذي تفرضه سلطة الاقوياء على مقهوري العالم، او على المستضعفين. وظهر أمين الريحاني قوميا عربيا ينادي بعظمة العرب، ويبرز أفضالهم على الحضارة الانسانية، كما كان وطنيا لبنانيا منفتحا ومتسامحا ومبتعدا عن التعصب والتزمت والانغلاق. كل هذا الى جانب أدب الطبيعة والوصف والنقد والحس الاجتماعي([68]).
غير أن الميزة الرئيسة في أدب الريحاني هي البعد الثالث، أو الشخصية الثالثة التي حاول أن يصورها رمزا للانسان الكوني المتفوق الذي يضم في شخصه خصائص الشرق وفضائله الى جانب خصائص الغرب وفضائله. فهو منذ وضع كتابه” خالد” باللغة الانكليزية عام 1911 كان فكره يتجه الى اللقاء الانساني الكبير بين الشرق والغرب. وهذا اللقاء حاول أن يظهّره في كل مؤلفاته، فكانت رحلاته الى البلاد العربية غذاءه الفكري والروحي لكي يطلق البعد الروحي للشرق، كما كانت أحاديثه وآراؤه عن الحضارة المادية الغربية، وفضيلة العقل والعلم غذاءه الفكري لإطلاق دور المادة في التطوير البشري([69]).
والريحاني عندما يتحدث عن الغرب من موقعه الشرقي ينتقد الشرق، ويبرز محاسن الحضارة الغربية، وبالعكس فعندما يتحدث عن الشرق من موقعه الغربي، فإنه ينتقد الغرب وماديته ومظاهره المزيفة، ويبرز محاسن الشرق وروحانيته وأمجاده التاريخية. من هنا تكونت لدى الريحاني الشخصية الثالثة او البعد الاخر للشخصية الانسانية التي هي ليست شرقية وليست غربية، بل هي الاثنان معا ” الشرق والغرب، الذكر والانثى لدى الروح الكونية، والجدولان العظيمان حيث يتم إنعاش جسد الانسان وروحه وتقويتهما وتنقيتهما” او هما المادة والروح، أو هما المذكر والمؤنث اللذان لا ينفصلان لأنهما أصل الوجود([70]).
وهذه الشخصية المثالية التي يسميها “الانسان السوبرمان”، ليست بعيدة عن الواقع، أو هي ليست فوق الطبيعة البشرية كما عرفناها لدى كثيرين من الفلاسفة والادباء. إنها في الواقع شخصية براغماتية قابلة للحياة، على كونها تحمل مواصفات الانسان الحضاري الذي يمزج بين الروح والمادة وهما أصل الوجود. فليس انسان الريحاني إنسانا مختارا فوق البشر، أو نبيا منزلا من السماء. انه الانسان المتفوق، المتميز، المثقف، المنفتح، المحاور، والمتفاعل مع الآخرين([71]).
تتمحور الجانب الإنساني في شعر أمين الريحاني حول الحب، الوطن، الطبيعة، الحزن، والموت. يعبر عن مشاعره وأفكاره بطريقة فنية مميزة تلامس قلوب القراء وتثير مشاعرهم وتفكيرهم. ولقد دافع الريحاني عن الإنسان، وأكد ضرورة احترامه وإعطائه حقه ، وان ما يصيبه من أذى وتدهور في حالته هو من جراء ظلم أخيه الإنسان ، بل أن الريحاني في قصيدة “المليك الشحاذ ” يطرح رؤية أشد عمقاً عندما يحمل الحكام والرؤساء مسؤولية الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته ، وأن ضياع كرامة الإنسان وتدهور حاله هو من جراء تقصير الحكام في حقوق الرعية ، وهو جانب من جوانب ظلم الحكام على الرعية ة([72]).
” ان في الباب شحاذا من بؤساء الكلدان أرهقهم سيف ابن عثمان
طواف يطوف البلاء متسولاً كفارة عن ذنوبه وآثامه
عن جرائر أحكامه
هو حجة الزمان ، على طغاة الزمان
هو دمل من دمامل مجتمع الإنسان
هو ثمرة طغيانكم أيها الرؤساء الحكام
هو صنع يديكم الأثيمة لا صنع يد
الله الرحيمة”([73]).
فهذا الشحاذ الذي استثار إنسانية الريحاني وجعله ناقماً على الرؤساء والحكام، لانهم قادة المجتمع وهم المسؤولون عن توفير ابسط حقوق الإنسان ومنها ضمان لقمة العيش للعاجزين عن العمل ، فصورهم بالظلمة والطغاة لانهم قصروا في واجبهم تجاه هذه الفئة من الناس ، فدفع هذا الشحاذ وأمثاله ثمن ظلم هؤلاء الحكام. ([74])
ومن المبادئ التي أحبها الريحاني ، وقد وجدها في الغرب وافتقدهــا فـي الشرق ولاسيما عند البلاد العربية “الحرية ” لان هذه البلاد كانت تحت وطأة الاستعمار في ذلك الوقت ، لذلك اخذ يشدو بهذه الحرية في قصائده المنشورة ، ويتمنى ان تحل البلاد العربية([75]).
” هي رفيقتي في السفر
هي المبتدأ في حياتي والخبر
هي الحرية ، جاءت تزور البلاد العربية
وتزرع فيها بذورها الطيبة الصفية
هي الحرية التي استمد منها الحياة
وهي الحياة افقها على خدمة هذه الأمة التي لا يجمعها
اليوم غير أمل وخيال
هي الحرية رفيقتي ، شاهدت قلب ما شاهدت
وسمعت كنه ما سمعت
وكان سرورها وكان حزنها أضعاف ما اعتراني من
الحزن والسرور
ابتسمت في الحجاز ابتسامة المريض
وبكيت في تهامت بكاء اليائس
وضحكت ثم تأوهت في اليمن
وجلست تستريح في العراق
هي الحرية تخاطبك أيتها البلاد العربية “([76]).
فالحرية عند الريحاني ليست مجرد قيمة روحية أو سمة فكرية ، بل هي إحدى المكونات الأساسية للحياة ومصدراً من مصادر طاقتها ، لذلك فهي رفيقته ، جاءت معه تزور البلاد العربية ، الريحاني هنا يبشر بالحرية البلاد العربية ويدعو إليها ، ثم ان هذه البلاد التي ذكرها الريحاني الحجاز ، تهامة ، اليمن ، العراق) تمد القصيدة ببعد واقعي سياسي ، فالريحاني قد زار هذه البلاد حقاً ، طارحاً فكرة توحيد هذه البلاد وتحرير بقية البلاد العربية من الاستعمار على أمرائها وملوكها ، وقد سعى جاهداً لتحقيق هذا الحلم إلا انه أخفق في ذلك، فإيمان الريحاني بمبدأ الحرية لم يكن مجرد إيمان نظري، بل اتخذ صورة إيمان عملي تطبيقي واقعي([77]).
الاتجاه الفلسفي
أولًا: الاتجاه الفلسفي في نتاج جبران خليل جبران.
في أعماق متهات الأدب والفلسفة ، يبرز جبران خليل جبران يبرز كشخصية استثنائية تعبر الحدود والثقافات، ناقلاً بذلك رؤى تتجاوز مجرد التعبير الأدبي لتصل إلى استكشافات فلسفية عميقة تتعلق بجوهر الإنسان والمجتمع. يثير تنقل جبران بين المجتمعين اللبناني والأمريكي تساؤلات جوهرية حول الهوية والانتماء وكيف يمكن للفرد أن يحافظ على تفرده الثقافي وهو يعيش في سياق مختلف تماماً عن جذوره([78]).
لعل من الأمور اللافتة في تجربة جبران هي قدرته الفائقة على تقديم قضايا معقدة بأسلوب يجمع بين السلاسة والرقي، ما يجعل من أعماله جسراً يعبر به القارئ إلى عوالم مليئة بالتساؤلات الوجودية والإنسانية. يُعزى هذا الأمر جزئياً، إلى العناصر التي شكلت تجربة جبران ومنظوره الفلسفي: الفكر الأوروبي الذي عكس تأثيرات النهضة والرومانسية والمنحى الرسولي الذي يستلهم البحث عن الحق والجمال([79])
وأخيراً الطبيعة اللبنانية التي تحمل في ثناياها عبق التاريخ وروح المكان. من خلال هذه العناصر، استطاع جبران أن يخلق مجتمعه الكتابي الخاص، مجتمع يُعبر عن قضايا عميقة تتعلق بالفن الفقر القوة الضعف، وغيرها من القضايا الاجتماعية والإنسانية. هذه القدرة على النقد والتأمل تعكس أهمية الأسلوبية تشكيل الوعي الفردي والجمعي، حيث تتجاوز النصوص الأدبية مجرد كونها وسائل للترفيه أو الإعلام لتصبح أدوات للتأمل والتغيير.
إن تفسير تجربة جبران وأعماله يقتضي النظر إلى كيفية تمثله لتلك القضايا في سياقها الأوسع، مدركاً أن الفن والأدب ليسا مجرد انعكاس للواقع، بل هما أيضاً وسيلتان لتشكيله وتغييره. في هذا السياق، يُظهر جبران أن الأحيب ليس مجرد مراقب خارجي، بل هو مشارك فعال في الحوار الثقافي والاجتماعي، مستخدماً أدواته الأدبية والفنية لاستكشاف الأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان وتحرك وجدانه([80]).
يتمكن جبران من خلال هذا الحوار الخلاق بين الذات والمجتمع من تقديم رؤى تأملية تتناول الأبعاد الأخلاقية والروحية للوجود الإنساني، مؤكداً على أن الفن لا يُعتبر مجرد تعبير عن الجمال، بل هو أيضاً استفهام وتحدي للواقع ومحاولة لإعادة تشكيله.
يمكن القول إن جبران يدعونا من خلال مجموعة أعماله إلى إعادة النظر في الطريقة التي تتفاعل بها مع العالم من حولنا، مقترحاً أن الفهم الحقيقي للذات والآخر يأتي من خلال التأمل والبحث الروحي، لا من خلال القوالب الجاهزة والأحكام المسبقة. هذا التوجه يمثل جزءا لا يتجزأ من البحث الدائم عن المعنى في عالم يبدو أحياناً محفوفاً بالغموض والتعقيد. ([81])
في ضوء هذا النهج، يصبح من الواضح أن جبران لم يعش “في” المجتمع اللبناني أو “في” المجتمع الأمريكي بالمعنى التقليدي، بل عاش “بين هذين العالمين، تجربته الشخصية كوسيلة لاستكشاف وتوسيع فهمنا للإنسانية نفسها. من خلال هذا التنقل الثقافي والفكري يعكس جيران التجربة الإنسانية بكل تعقيدها وتنوعها، مؤكداً على أن الهوية الثقافية لا تعرف بالضرورة من خلال الجغرافيا أو السياق الاجتماعي، بل من خلال القدرة على التواصل والتعبير عن القيم والأفكار العالمية ([82])
.
لذا، يمكننا اعتبار جبران مثالاً للمثقف العالمي الذي يستخدم الأدب والفن كوسائل التجاوز الحدود والفوارق، ولفتح حوارات تهدف إلى تعزيز التفاهم والتعاطف بين الناس من مختلف الثقافات والخلفيات إن النقد الأدبي والفلسفي لأعمال جبران يظهر بجلاء كيف أن الأدب ليس فقط مرآة للواقع، بل هو أيضاً مطرقة يمكن أن تستخدم لتشكيله، مقدماً بذلك إسهاما لا يقدر بثمن في الثقافة الإنسانية والحوار العالمي. يقدم جبران من خلال أدبه رسالة تحرر وأمل، داعياً الفرد للتجاوز عن حدود الذات والانفتاح على الآخر في رحلة بحث مستمرة عن الجمال والحقيقة في أعمق تجلياتها.
من خلال هذا النقد الأدبي والفلسفي، ترى كيف أن جبران خليل جبران لم يكتف بمجرد الكتابة عن القضايا الاجتماعية والإنسانية بأسلوب مبتكر وراق فحسب، بل سعى أيضاً إلى إنشاء حوار يتجاوز الزمان والمكان، يلامس القلوب ويحرك العقول نحو فهم أعمق للحياة ومعانيها إن إرثه الأدبي والفلسفي يقف كشهادة على قوة الفن كوسيلة للتعبير عن الإنسانية والتأثير فيها، مقدماً مثالاً حياً على كيفية استخدام الأدب لاستكشاف القضايا العميقة التي تشغل بال الإنسان وتقدم له إلهاما للنظر إلى العالم من منظور جديد.
في النهاية، يبقى جبران خليل جبران رمزا للحكمة والبحث الروحي، مانحاً أعماله كهدية للعالم تنير دروب الباحثين عن المعنى والجمال في زمن يسوده التحدي والتغيير يذكرنا جبران بأهمية الأدب والفن في تشكيل وعينا وإثراء تجربتنا الإنسانية، مؤكداً على دورهما الأساسي في بناء جسور التواصل بين الثقافات والشعوب وفي السعي نحو عالم يسوده الفهم والتسامح والحب.
ولعلّ الشخصية الجبرانية تبرز أكثر في قصيدته التأملية العظيمة (المواكب)، وهي القصيدة التي تكشف عن شخصية أقرب إلى التصوّف والسعي نحو الكمال الإنساني، وهو ما بدا واضحاً أيضاً في كتابه (رمل وزبد) الذي دعا فيه كذلك إلى المحبة والتسامح، وتحدث فيه عن علاقة الإنسان بالإنسان، فيما تحدث عن علاقة الإنسان بذاته وبالكون والخالق في كتاب (المجنون)، الذي لم يغفل فيه أيضاً دعوته إلى نبذ العادات والتقاليد، غير أن المتصوّف يتجلى بوضوح في رائعته الخالدة (النبي)؛ الذي ترجم إلى أكثر لغات العالم، وجعل من جبران ثالث أكثر الشعراء مبيعاً عبر التاريخ، بعد شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه، فكتاب النبي هو خلاصة الأراء الجبرانية في قضايا حياتية أساسية كالمحبة، والزواج، والدين، والخير والشر، والفرح والترح، والجرائم والعقوبات، والموت، والحرية، واللذة، والجمال، وغيره([83]).
فعلى لسان (المصطفى)؛ الرجل الحكيم، يقدم جبران معالجات فلسفية للعلاقات الإنسانية، عبر طرح مفاهيم جديدة لأشكال هذه العلاقات، والأسس التي يجب أن تقوم عليها، ما يصح أن يطلق عليه ربما تصوّفاً فلسفياً، فحين تسأله امرأة عرّافة عن المحبة يقول([84]):
“المحبة تضمكن إلى قلبها كأغمار الحنطة، وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم
وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم، وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج
وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة
لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدّسة
المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها
المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة”
وحين تسأله العرّافة عن رأيه في الزواج يجيب([85]):
قد ولدتم معاً، وستظلون معاً للأبد
وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء
أجل، وستكونون معاً حتى في سكون تذكارات الله
ولكن فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السماوات بينكم
أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم
ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لا تشربوا من كأس واحدة
أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه، ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد
غنوا وارقصوا معاً، وكونوا فرحين أبداً، ولكن فليكن كل واحد منكم وحده
كما أن أوتار القيثارة يقوم كل وتر منها وحده، لكنها جميعاً تخرج نغماً واحداً
ثم تدنو منه امرأة تحمل طفلها وتطلب منه أن يحدثها عن الأبناء فيقول:
أولادكم ليسوا ملككم
إنهم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم
ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم
أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارأً خاصةً بهم
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم، ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم
فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم
وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم، ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم
لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس
أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم
فإن رامي السهام ينظر العلامة المنصوبة على طريق اللانهاية، فيلويكم بقدرته لكي تكون سهامه سريعة بعيدة المدى
لذلك، فليكن التواؤكم بين يدي رامي السهام الحكيم لأجل المسرة والغبطة
لأنه، كما يحب السهم الذي يطير من قوسه، هكذا يحب القوس الذي يثبت بين يديه
وعندما يأتيه رجل غني يطلب منه الحديث عن العطاء يقول([86]):
من الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة لهم
ومنهم من يعطون بألم، وألمهم تطهير لهم
وهنالك الذين يعطون دون أن يكابدوا ألما، أو يطلبوا فرحاً
ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم
هؤلاء يعطون ما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي
بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض
أما الألم فيراه (المصطفى) من زاوية مختلفة حين يقول([87]):
“إن ما تشعرون به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلف إدراككم وكما أن القشرة الصلدة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس، هكذا أنتم أيضاً، يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة، لأنكم لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها من التأمل والدهشة، لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم”
كما يربط اللذة بالعطاء في مفهوم غاية في الإنسانية وهو يقول([88]):
“أجل، إن جسدك هو قيثارة نفسك، وأنت وحدك تستطيع أن تخرج منها أنغاماً فتانة أو أصواتاً مشوشة مضطربة ولعلك تسأل في قلبك قائلا: كيف نستطيع أن نميز بين الصالح والشرير من اللذات؟ اذهب إلى الحقول والبساتين وهناك تتعلم أن لذة النحلة قائمة في امتصاص الرحيق من الزهرة وكذلك لذة الزهرة أن تقدم عسلها للنحلة، فالنحلة تعتقد أن الزهرة ينبوع الحياة، والزهرة تؤمن بأن النحلة هي رسول المحبة، والنحلة والزهرة كلتاهما تعتقدان أن اقتبال اللذة وتقديمها حاجتان لا بد منهما وافتتان لا غنى للحياة عنه”
هذه الفلسفة العميقة التي سطرها جبران خليل جبران بأسلوب موسيقي طافح بالعواطف الجيّاشة والعبارات المشرقة والتصوير الأخاذ، جعلت منه ـ كما عرّفه حنّا الفاخوري ـ “عبقرية خالدة تخطت حدود المكان والزمان، وكان لها تحت كل كوكب مملكة وسلطان، نطقت بالكلمة فرددها الكون بكل لغة ولسان”، ولذلك “ظل بعد رحليه يشغل الناس بأدبه وفنّه كما كان يشغلهم في حضوره”، والكلام هنا لجميل جبر الذي أضاف أن “الآداب العربية لم تعرف أديباً كان له الأثر الذي لجبران، إذ إنه فاصل تاريخي حاسم بين التقليد والتجديد، انطوى بوجوده عهد وبدأ عهد”([89]).
كما تقوم قصيدة المواكب، على تصور رومانسي للحياة، هذا التصور ينبني على مقارنة بين عالم الناس وعالم الوبيعة، ونتجت عن المقارنة لة من الثنائيات الضدية التي تجلي حجأ التناقضات والاختلالات التي توجد في الواقع الذي نعيشه والمجتمع الإنساني بشكل عام.
ولرصد فلسفة الحياة الجبرانية تجاه الحياة، ارتأينا أن نقف عند الثنائيات التي تصدى لها الشاعر في المقطع الأول قصيدته حيث يعبر عن ثنائية الخير والشر. يبتدئ جبران خليل جبران، في قصيدته للمواكب، بكشف رؤيته لعالم الناس، ويُعْرِبُ عن نظرته، فيقول: ([90])
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا * والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
فالخير في العالم الواقعي، حسب الرؤية الجبرانية مصطنع ومبتذل، غير نابع من حب الإنسان
العمل الخير، والسعي وراء نشر الفضيلة والمحبة بين بني البشر، بل هو نابع من الجبر والقسر؛ في المقابل، يرى جبران، في البيت ذاته، أن الإنسان وإن فارق الحياة، وتقل رفاته، فإن شره يبقى في الوجود. هذه النظرة التي كشفها جبران، في البيت الأول من مطولته، إزاء عالم الناس، هي في الحقيقة نظرة مقبوسة من الواقع، فالإنسان الآن أصبح “ذئبا لأخيه الإنسان” بتعبير توماس هوبس، يسعى دوما إلى الشر والدمار والتخريب ولعل واقعنا المعاصر خير دليل على وحشية الإنسان وشره([91]).
ثم يمضي جيران، إلى تصوير مقام الإنسان في الحياة، أو بالأحرى في عالم الناس، فيقول([92]):
وأكثر الناس آلات تركها أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
فلا تقولي هذا عال علم ولا تقولن ذاك السيد الوقر
فأفضل الناس قطعان يسير بها صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر
ثانيًا: الاتجاه الفلسفي في نتاج أمين الريحاني.
مزج الريحاني في كتاباته بين الأدب والفلسفة وجعلهما في متناول كل قارئ بغض النظر عن ثقافته وقدراته الذهنية، وقدمهما بصورة شعرية فقربهما من الأذهان ولا سيما في “في ربيع
اليأس” و”الرسول الأسمى”، ففي الأولى، حدد دور الإنسان في الوجود من خلال عرض تجربة شخصية بأسلوب قصصي شائق. وفي الثانية أتى على شكل حقيقة يقينية لا تحتمل الشك حول قيمة الإنسان والهدف النهائي من وجوده. وعالج بالتالي هاتين القضيتين في إطار عرضه مجموعة من القضايا المتداخلة كاليأس والحب والرفض والأخلاق، والسعادة والمجد وسمات الإنسان المتفوق، والمدينة العظمى([93])، وسنعرض لفكرتي اليأس والحب تباعًا:
- اليأس:
ينطلق الريحاني في تقديمه فكرة يقينية من “الحقيقة المطلقة” من خلال إعطاء أمثلة متعددة عن اليأس ومستوياته عند الناس، فهو شعور مشترك بين الجميع، مع الإشارة إلى اختلاف نسبته عند الناس كل وفقا لعمله ومستواياته الاجتماعية والفكرية والثقافية ويحاول عبر طرح التساؤلات عن هذا الشعور الذي يعده منطلقا لبداية البحث عن المعرفة ورغبة الإنسان في الحصول عليها، ودوره في هذا العالم، والغايات التي يطمح الى الوصول من خلالها إلى المجد والسعادة، انطلاقا من وضعه على هذه الأرض. ويطرح السؤال التالي: هل الإنسان الذي ينتهي يأسه بقصيدة ينظمها أو بظفر غرامي في حفلة راقصة هو مثل من له سلم لولبي من الأشواق والأمال؟ ويُجيب عن سؤاله: “قد يكون الجوهر واحدا ولكن الشكل واللون والبيئة، وما يتصل بالبيئة من سابق ولاحق في الحياة يختلف كله اختلاف الأشواق والأمال في الناس واختلاف الثروة الروحية في الأفذاذ “([94]).
إذاً يرى الريحاني أن الشعور باليأس موجود عند الجميع لكنه ليس على درجة واحدة عند الجميع، وكلما تعاظ هذا الشعور، تعاظمت مسؤولية صاحبه تجاه المجتمع تعاظم وبالتالي دوره وفي الوقت نفسه، يرتبط هذا الإحساس بمعرفة الإنسان، فكلما ازداد یاسه ازدادت معرفته وازدادت نسبة الأمل لديه في إيجاد وسيلة لتغيير المجتمعات. وتاليا، أن اليأس بمنزلة طريق إلى المعرفة وهو بذلك يشير إلى أن حب المعرفة موجود في الإنسان وفي طبعه ويكتسب بالحدس فإن المسؤولية المترتبة على الفرد تختلف بحسب موقعه الاجتماعي والفكري، وهذا الطبع موجود حتى في العلماء والمفكرين والأنبياء ويرتقي ويسمو به كلما اتسعت دائرة اهتمامات الفرد من المادي والحسني واليومي والخاص إلى الروحي والدائم والعام([95]).
وهنا يبدو اليأس وكأنه واقع ملزم وضروري لتجديد الحياة، ومن خلاله وليس من خلال أي معرفة أو علم آخر. وهذا العلم هو العلم الأهم الذي ينادي به الريحاني في فلسفته، ويعتبره أهم من العلوم الأخرى البعيدة عن حالة الإنسان النفسية ولا تهتم بقضاياه وحالته الوجدانية. لذا تراه يولي الأهمية الكبرى لمشاعر الإنسان، فتسمعه يقول في النص نفسه: ماذا يفيدك الفلك وأنت لا تدري إلى أي برج من أبراجه تصل النجدة؟ وماذا تفيدك معرفة البلدان وأنت عاجز عن السفر إلى حيث تخف تكاليف الحياة وتنعم بجنياتها، أو الفلسفة وأنت في لجج الأحزان… أو الطب و شرايينك تزداد تصلبا …؟. ([96]).
وهنا نرى الريحاني المثالي الذي يعتبر أن الحقيقة موجودة وقائمة في هذا العالم، ولكنها مستقلة عن الإنسان بصورة مطلقة، وتكتشف عن طريق الحكمة التي تأتينا من الخالق أو الأنبياء أو الفلاسفة. ويلتقي الريحاني في موقفه هذا مع موقف أرسطو حول أن العلم ضروري للعقل البشري وواجب في الفلسفة، وأن استكشاف أسرار الحكمة خير وأبقى من حكم الدنيا بأسرها… هذا من جهة، ويلتقي بهذا مع الرسول بولس في تشديده على “الله الخالق والمتعالي فوق كل شيء وواهب الحياة لكل شيء. وبأنه زرع في عمق قلب الإنسان التوق والحنين إليه”([97])
ب. الحب: يستخدم الريحاني أسلوب السرد في القسم الأول من نصه “في ربيع اليأس” ليروي تجربته الحياتية التي جعلته يكتشف المعرفة الحقيقة، ومعنى الحياة، ودور الإنسان في هذا العالم، ومنتهاه، فيروي قصة هروبه من غرفته في ليلة عاصفة، وفيها إشارة إلى يأسه الشديد من عالم دفن فيه أحلامه عالم لم يكن على مسارى التوقعات ولم يكشف له كما يريد. هذا الشعور بالنقص واليأس دفعه إلى البحث عن طريق أخرى في بلاد أخرى. وهو في مسيرته هذه التقى امرأة “بائسة شريدة”، ومعها، أحرق “سفراً من الأسفار” لتدفئتها ونسي بالتالي ضالته المنشورة”. وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان الذي يشعر باليأس يبحث عن الضالة المنشورة التي تتمثل في البحث عن دور له في المجتمع الذي يميزه، وبالتالي عن معنى وجوده لكي في نهاية المطاف يذوب مع من يحب في حب يتكامل طرفاه على كل المستويات العاطفية والفكرية.
فيتحدان وفي هذا الاتحاد تكمن قوة التغيير. وهذا المر يكون على المستوى الفردي، وهو يمكن صاحبه من تحديد خياراته وبالتالي التغيير على المستوى الجماعي تمهيدا للاتحاد بالخالق ومن هنا، يبدو الاتحاد بالمرأة الحبيبة المتساوية مع الرجل والمتكاملة معه ضرورة حتمية للاتحاد بالله. وبهذا يقترب من أفلاطون في حيه الخالص الذي يقود الروح إلى الخير. كما أن الإدراك يقود الروح إلى الحقيقة. وبذلك يتبدى الحب بمثابة أسمى عمل تقوم به الطبيعة الإنسانية([98]).
وفي هذا السرد، تجد تقابلا بين ذات الريحاني والمرأة في الغرفة وفي المدينة، وكأنهما كادم وحواء لا في الفردوس لا بل في الجحيم، كما يظهر لنا في قوله: “قررت من أدم وحواء في الجحيم، هربت من المدينة، ومن جحيمها ومعها انتقل من حال إلى حال أخرى من عالم إلى آخر، ونسي كل ما له علاقة بالأرضيات انتقل إلى الحياة الكبرى التي تتبارى فيها المحاسن والمأثم واللذات والآلام”، ويعمم بذلك تجربته لتطال الإنسان ككل. ومن هنا ندرك أن حواء تعاني الحالة النفسية نفسها، غير أنها لم تيأس، وهذا ما يشير إلى أن القضية المطروحة هي قضية الإنسان بشكل عام.
ويتابع الريحاني في نصه ” في ربيع اليأس” البحث عن ضالته فيتوجه إلى البادية، حيث ينعم بكل ما فقده في المدينة، ويطرح مسألة الرفض والتمرس في قول “لا” في بعض الأحيان كونها من أسس الأخلاقيات التي يتأسس عليها منهجه الإصلاحي، ولا سيما تلك التي تدخل في إطار التكاذب والعصبيات الدينية والعقائدية، ونبذ كل ما يكبل حرية القول والمعتقد. وهذا الأمر قد قاده إلى طرح فكرة “التساهل الديني أي الانفتاح على ما يمكن أن يقبله العقل من أمور قد تبدو متناقضة أو متعاكسة”. ويستتبع ذلك رفض التسليم المطلق لما تقوله الأديان مرجعاً أسباب التخلّف في الشرق إلى رزوح الشعوب تحت الأوهام الدينية. لذلك، يرى أن تقويضها يكمن في أساس كل عملية تحررية تقدمية. ومن هنا انبثقت فكرة التوحيد بين الديانات السابق الإشارة إليها في الاتجاه التأملي في نتاج أمين الريحاني”([99]).
([1]) جبر، جميل، بدون سنة نشر، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران، ص 44.
([2]) السرغيني، محمد ، 1987، محاضرات في السيمولوجيا، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، ص 524.
([4]) الجيوشي، سلمى الخضراء، 2001، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 25.
([6]) فتوح، أحمد محمد، 1984، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط 3، دار المعارف، مصر، ص 343.
([7]) الجيوشي، سلمى الخضراء، مرجع سابق، ص 45.
([8]) جبي، ماسيلا، 2013، المؤثرات الخارجية في إنتاج جبران الأدبي، العواصف والنبي نموذجين، مجلة حوليات التراث، العدد 13، ص 74، 75.
([10]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت، ص 131.
([11]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، 2014-2015، النزعة التأملية بين جبران والشامي، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الليسانس، كلية الأدب واللغات، جامعة أكلي، الجزائر، ص 31، 32.
([12]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت، ص 132.
([13]) جبي، ماسيلا، مرجع سابق، ص 76.
([14]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، 2014-2015، النزعة التأملية بين جبران والشامي، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الليسانس، كلية الأدب واللغات، جامعة أكلي، الجزائر، ص 31، 32.
([15]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت، ص 134.
([16]) عياش، عبد الله محمود مسعود،2007، أثر والت ويتمان في شعر أمين الريحاني، رسالة ماجستير، الجامعة الهاشمية، الأردن، ص 160.
([17]) أمين الريحاني، 1987، القوميات، بيروت: دار الجيل، ط7، ص 152.
([18]) عياش، عبد الله محمود مسعود، مرجع سابق، ص 165.
([20]) الريحاني، أمين، 1950، “إصلاح الأمة” في “التطرف والإصلاح”، دار الريحاني للطباعة والنشر، بيروت، ص 40.
([21]) عياش، عبد الله محمود مسعود، مرجع سابق، ص 169.
([22]) أمين الريحاني، 1987، القوميات، مرجع سابق، ص 156.
([23]) الريحاني، أمين، مرجع سابق، ص 50.
([24]) الريحاني، أمين، 1987، في ذلك الزمان” الريحانيات”، بيروت، ص 310.
([25]) الريحاني، أمين، مرجع سابق، ص 47.
([26]) الريحاني، أمين، في ذلك الزمان” الريحانيات”، مرجع سابق، ص 305.
([27]) أمين الريحاني، القوميات، مرجع سابق، ص 170.
([28]) حسيني، هاجر،2021، تيمة الموت والحياة في ديوان هتاف الأودية، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، الجزائر، ص 28.
([29]) أمين الريحاني، القوميات، مرجع سابق ، ص 157.
([30]) حسيني، هاجر، مرجع سابق، ص 23.
([31]) حسيني، هاجر، مرجع سابق، ص 29.
([32]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 40.
([33]) كرم، غطاس أنطوان، 1959، جبران الخالد، تأثيراته وتأثراته، محاضرات الندون اللبنانية، ص 242.
([34]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت، مرجع سابق، ص 137.
([35]) ياسر، محمد ،2018 ، القومية في نثر ” يا بني أمي” لجبران خليل جبران، دراسة تحليلية وصفية، جامعة الرانيري الإسلامية الحكومية، ص 25.
([36]) جبي، ماسيلا، مرجع سابق، ص 77.
([37]) نقلاً عن جبي، ماسيلا، مرجع سابق، ص 78.
([38]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 44.
([39]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق، ص 220.
([40]) جبي، ماسيلا، مرجع سابق، ص 54.
([41]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق، ص 240.
([42]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 44.
([43]) الريحاني، أمين، “المكاري والكاهن”، نقلا عن أمين ألبرت الريحاني، 1987، فيلسوف الفريكة صاحب المدينة العظمى، دار الجيل، بيروت، ص 167، 168.
([44]) الريحاني، أمين، مرجع سابق، ص 47، 48.
([45]) الريحاني، أمين، 1955، “هتاف الأودية: شعر منثور” ، دار الريحاني للطباعة والنشر، بيروت، ص 56- 58.
([46]) الريحاني، أمين، 1987، في ذلك الزمان” الريحانيات”، مرجع سابق، ص 302.
([47]) الريحاني، أمين، 1982، “وصيتي”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 25، 26.
([48]) كرم، غطاس أنطوان، جبران الخالد، تأثيراته وتأثراته، مرجع سابق، ص 240.
([49]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بدون سنة نشر، بيروت لبنان، ص 129.
([50]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق ، ص 240.
([51]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، مرجع سابق، ص 133.
([52]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق ، ص 240.
([53]) مجموعة مؤلفات جبران خليل جبران المترجمة إلى الإنجليزية، بدون سنة نشر، ص 16
([54]) كوفحي، يوسف محمد محمود، 2007، أعمال جبران خليل جبران العربية، دراسة أسلوبية، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، الأردن، ص 8، 9.
([57]) نعيمة، ميخائيل، 1964، جبران خليل جبران، ص 129.
([58]) كوفحي، يوسف محمد محمود، مرجع سابق، ص 5.
([59]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق ، ص 244.
([60]) ياسر، محمد ،2018، القومية في نثر ” يا بني أمي” لجبران خليل جبران، مرجع سابق، ص 20.
([61]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، مرجع سابق، ص 154.
([62]) طنسي زكا، 1971- 1979، بين نعيمة وجبران مكتبة المعارف، ط1، ص 26
([63]) النبي لجبران خليل حيران، 1984، نقله إلى العربية وقدم له ثروت عكاشة، ط1، ص 24.
([64]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق ، ص 247.
([65]) النبي، مرجع سابق، ص 27.
([66]) كوفحي، يوسف محمد محمود، مرجع سابق، ص 6.
([67]) كرم، غطاس أنطوان، مرجع سابق ، ص 249.
([68]) جميان، سلمان عبد الخالق،( 2005)، الشعر المنثور عند أمين الريحاني، رسالة ماجستير ، كلية التربية، جامعة الموصل، ص 113.
([70]) الرافعي، سعيد توفيق، 2014، أمين الريحاني، ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 53، 54.
([71]) الراوي، حارث طه، 1979، أمين الريحاني، المورد، المجلد 8، العدد 2، ص 435.
([72]) الرافعي، سعيد توفيق، مرجع سابق، 49.
([73]) الأعمال العربية الكاملة لأمين الريحاني 9، 85-86.
([74]) الراوي،حارث طه، مرجع سابق، ص 436.
([75]) الرافعي، سعيد توفيق، مرجع سابق، 44.
([76]) الأعمال العربية الكاملة لأمين الريحاني 9، 117-118.
([77]) الراوي، حارث طه، مرجع سابق، ص 436.
([78]) كوفحي، يوسف محمد محمود، مرجع سابق، ص 12.
([79]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 40.
([80]) كوفحي، يوسف محمد محمود، مرجع سابق، ص 12.
([81]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 74.
([82]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت، ص 137.
([83]) صوان، أمينة، ضيف، إيمان، مرجع سابق، ص 70.
([84]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة،مرجع سابق، ص 147.
([86]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، مرجع سابق، ص 157.
([87]) ياسر، محمد ، مرجع سابق ، ص 29.
([88]) كرم، غطاس أنطوان، 1959مرجع سابق ، ص 249.
([89]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، مرجع سابق، ص 159.
([90]) ياسر، محمد ، مرجع سابق ، ص 58.
([92]) المجموعة العربية لمؤلفات جيران منشورات المكتبة العلمية الجديدة، مرجع سابق، ص 170.
([93]) الريحاني، أمين ألبرت، أمين الريحاني فيلسوف الفريكة، مرجع سابق، ص 56.
([94]) الريحانيات، مرجع سابق، ص 616، 618.
([95]) البتديني، أحمد سليم، 2016، الفلسفة الأخلاقية الأرسطية، دار العلوم العربية، بيروت، ط1، ص 21.
([96]) الريحاني، أمين ألبرت، أمين الريحاني فيلسوف الفريكة، مرجع سابق، ص 70، 71.
([97]) الريحانيات، مرجع سابق، ص 656.
([98]) شعبان، عبد الحسين، بدون سنة نشر، الكافي في الفلسفة العربية، دار الفكر اللبناني، ص 45.